المحاضرة الثالثة
التدخل الأجنبي في الصين خلال القرن التاسع عشر
مع مطلع القرن التاسع عشر دخلت الصين مرحلة حاسمة من تاريخها العريق اتسمت بتازم شامل طال كل الميادين وتأكد مع حلول منتصف القرن 19 بشكل فعلي العجز الكلي لحكومة المانشو عن الحفاظ على سيادة البلاد وهيبة إمبراطورية السماء أمام الأجانب ورعاياها على السواء.
لقد كان أهم ما ميز تطور الأوضاع في الصين خلال هذه الظرفية هو اشتداد الضغط الإمبريالي وما أثاره هذا الضغط من تدمر واستياء في صفوف الفئات الشعبية اختلفت أشكال تعبيره ما بين انتفاضات فلاحية وتمردات تتزعمها جمعيات سرية وبين ثورات شعبية تقودها الأقليات الإثنية والدينية المضطهدة. وكلها شكلت هبات عنيفة هزت أركان الإمبراطورية الصينية بأسرها. لقد ظلت التجارة الأوربية في الصين خلال المرحلة السابقة عن القرن التاسع عشر منحصرة في بعض المرافئ (ماكاو وكانتون) حيث فشلت عدة محاولات للبعثات التجارية الأوربية في مساعيها الهادفة إلى توسيع المبادلات التجارية بين بلدانها والصين، وإلى حدود العقود الأولى، من القرن التاسع عشر ظلت قيمة صادرات الصين تفوق بكثير قيمة وارداتها، ذلك أن الأوربيين، وفي مقدمتهم الإنجليز كانوا يقبلون على شراء كميات كبيرة من الشاي والحرير والخزف وسلع أخرى دون أن يتمكنوا من تصريف المقابل من بضائعهم، غير أن هذا الوضع سيتغير مع تزايد اهتمام الرأسمالية الأوربية بالسوق الصينية، فبريطانيا بعد أن تقوى نفوذها بإتمام غزو الهند وبما صار لها من قوة وبطش من جهة، وأمام استمرار الرفض الصيني للعروض البريطانية الرامية إلى توسيع العلاقات التجارية من جهة ثانية صممت على استخدام القوة لإرغام الصين على فتح أبوابها أمام التجارة الحرة، وتأتى لها ذلك عن طريق إدخال الأفيون إلى الصين. حيث لجأت شركة الهند الشرقية إلى ترويج هذا المخدر على نطاق واسع فقفزت نسبة تجارية من 17 % سنة 1818 إلى 50 % سنة 1833 من مجموع قيمة الواردات البريطانية إلى الصين .
وإذا كانت هذه التجارة قد مكنت بريطانيا من تعديل كفة الميزان التجاري في مبادلاتها مع الصين لصالحها وجعلتها تجني أرباحا مذهلة، فغني عن البيان ما كان لنشاط تهريب الأفيون من أثار وخيمة على أبدان وعقول الناس خصوصا إذا علمنا أن عادة تدخين هذا المخدر قد انتشرت بسرعة بين أبناء الشعب الصيني، إذ تفيد بعض التقارير أن نسبة مدمني الأفيون قد ارتفعت في أواخر القرن الماضي إلى خوالي ربع الشعب الصيني، ناهيك عما وجهته هذه التجارة من ضربات موجعة للاقتصاد الوطني تمثلت في تدفق العملة الفضية خارج الصين دون مراقبة، وارتفاع ثمنها ارتفاعا كبيرا في الداخل، بالإضافة إلى تفشي الرشوة في صفوف المسؤولين وجباة الضرائب الذين عملوا على تحصيل قدر أكبر من المحاصيل والضرائب حتى يظل رصيدهم من الفضة ثابتا رغم ارتفاعها، كل ذلك ساهم في خلق جو من الاستياء العام في صفوف قطاعات عريضة من الشعب تطالب بالقضاء على الأفيون ولا سيما الفلاحين الذين وقع على كاهلم العبء الأكبر، مما يفسر الدور الريادي لهذه الفئة الاجتماعية في أغلب التمردات والانتفاضات التي عمت مجموع البلاد الصينية حوالي النصف الثاني من القرن 19.
حرب الأفيون الأولى (1840 -1842) :-
وتحت ضغط الرأي العام وشعور الحكومة الصينية بالخوف من استفحال عواقب تجارة الأفيون اقتصاديا وسياسيا قرر الإمبراطور اتخاذ إجراءات فعالة لإيقاف تلك التجارة وأهمها إصدار مرسوم يقضي بمنع تجارة الأفيون منعا كليا وفرض عقوبات صارمة على المهربين الصينيين وكل من له علاقة بهذه التجارة، ومن أجل تنفيذ هذه الإجراءات عين (لي تشي هسو) مندوبا إمبراطوريا ساميا وتخويله سلطات مطلقة لأداء مهمته، وفور وصوله إلى كانتون طلب التجار الأجانب بتسليم ما لديهم من أكياس الأفيون والحصول على تعهدات من ربابنة السفن بعد إحضار الأفيون أو بيعه وإلا تعرضوا لعقوبة المصادرة، كما أمر جميع العمال الصينيين المرتبطين بهذه التجارة بمقاطعة أي تعامل مع التجار والسفن الأجنبية، وأمام رفض المشرف البريطاني على التجارة في كانتون لأوامر المندوب الصيني، قام هذا الأخير بمحاصرة حي التجار الأجانب في كانتون وحجر أكثر من 20 ألف صندوق من الأفيون وإحراقها في حفل عام سنة 1839، وقد كان هذا الإجراء بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت نيران حرب الأفيون الأولى.
لقد أثار إجراء المسؤول الصيني غضب البريطانيين باعتباره يحرمهم من مورد ضخم يدر عليهم أرباحا كبيرة، لذا أعلنت بريطانيا الحرب على الصين في أبريل 1840 بدعوى أن الصين تقف في وجه التجارة الحرة وتسيء التعامل مع الرعايا والتجارة الإنجليز، كما طالبت بتعويض قيمة الأفيون المصادر والاعتراف بشرعية الإنجاز في الأفيون كسلعة تجارية فضلا عن شروط أخرى استهدفت النيل من سيادة الإمبراطورية .
وأمام رفض المسؤول الصيني للمطالب البريطانية دخل الطرفان في مواجهة عسكرية تمثلت في حصار الأسطول البريطاني لميناء كانتون، ومنه واصل البريطانيون قصفهم لموانئ أخرى، وتمكنوا من احتلال ميناء أموي Amoy وتيجهاي ونينغ بو Ning-po ( 9 مارس 1842) وشنغاي (18 يونيو 1842) هذا وقد تخللت هذه المعارك التي دامت سنتين مفاوضات فاشلة (اتفاقية شوينيي التي نصت على تسليم هونج كونج إلى الإنجليز، ودفع غرامة ستة ملايين ريال من الفضة، وفتح كانتون للتجارة البريطانية) وما أن تأكد تفوق القوات البريطانية حتى عبر الصينيون عن استسلامهم خصوصا و أن هذه القوات كانت قد عبرت نهر اليانغ تسي كيانغ للقيام بهجوم على مدينة نانكينغ، المدخل المباشر لبكين، وهناك تم توقيع معاهدة نانكينغ (19 يونيو 1842) التي حوت شروطا مجحفة في حق الصين وجعلتها تحت رحمة الرأسمالية الأجنبية.
لقد أرغمت الصين على فرض غرامة مالية كتعويض عن الأفيون المصادر، على أن من أخطر بنود هذه المعاهدة هي التنازل لبريطانيا عن جزيرة هونج كونج ذات الموقع الاستراتيجي الخطير، وفتح خمس موانئ للتجارة الأجنبية: كانتون – شنعاي – أموي – نينغ بو – فوتشيو Fou-teheou يسمح فيها للتجار الأجانب وعائلاتهم ومؤسساتهم بالإقامة بقصد مزاولة أعمالهم التجارية دون أدنى مضايقة أو قيد كما فرض على الصين تحديد الرسوم الجمركية على الواردات البريطانية وبأن لا تزيد عن نسبة 5 % مما شل إمكانيات نمو الصناعة الوطنية، واتفق على تعيين قناصل بريطانيين يتكفلون بالدفاع عن مصالح التجار الإنجليز وتطبيق القانون البريطاني على الرعايا الانجليز جنائيا ومدنيا، وأخيرا حصلت على امتياز يجعلها الدولة الأكثر رعاية (·) في معاملاتها التجارية مع الصين، وكان من الطبيعي في إطار التنافس الاستعماري التقليدي أن تتحرك باقي الدول الأجنبية للحصول على امتيازات مماثلة لتلك التي حظيت بها إنجلترا بمقتضى معاهدة نانكينغ، وأمام تهديدات هذه الدول اضطرت الحكومة الصينية للرضوخ إلى مطالبها وإمضاء اتفاقية وانجهيا (3 يوليوز 1844) مع الولايات المتحدة الأمريكية، ثم اتفاقية وامبوا (Wham pou) 24 أكتوبر من نفس السنة مع فرنسا، وقد نصت هذه الأخيرة بالإضافة إلى الامتيازات الاقتصادية على حق إقامة الإرساليات التبشيرية ورعاية الدين المسيحي.
لقد أكد تطور الأحداث مدى ضعف السلطة الحاكمة وعجزها عن الحفاظ على سيادة البلاد من جهة، وعدم قدرتها على التحكم في الأوضاع المضطربة وفشلها في مواجهة الانتفاضات الفلاحية من جهة ثانية، وقد كان من أخطرها انتقاضة التايبينغ.