المحاضرة السادسة
الحركة الإصلاحية في الصين أواخر القرن التاسع عشر
أصبحت الصين أواخر القرن التاسع عشر تموج بالتيارات الفكرية والسياسية المختلفة بحثا عن حل للأزمة العامة بالبلاد.
*كانت هناك الدوائر الحاكمة والطبقة الارستقراطية التي رأت أن المخرج يكمن في ضمان صداقة الأجانب، والقيام بحركة تغريب واسعة في الإدارة والثقافة والتعليم، وإدخال الصناعات الحديثة ولا سيما صناعة الأسلحة والترسانات البحرية والسكك الحديدية لإشعار الشعب بقوتها دون المساس بالأوضاع التقليدية المحافظة في المجتمع الصيني.
*وكان هناك دعاة الإصلاح الاجتماعي من البورجوازيين المعتدلين الذين يرون أنه لا يمكن الأخذ بمظاهر الحضارة الغربية، وإنما يجب النفاذ إلى لبها وجوهرها بما في ذلك إصلاح النظام الإقطاعي السياسي والأخذ بالملكية لدستورية المقيدة.
*وكان هناك فريق آخر من البورجوازية الثوريين الذين يمثلهم صن يات صن ويلتف حوله المبعوثون الصينيون في الخارج، وهؤلاء يرون أن لا مخرج إلا بالقضاء على النظام الفاسد من جذوره وإنشاء جمهورية حديثة فتية.
*وأخيرا كان هناك تيار شعبي عارم تمثله الجمعيات السرية التلقائية المتعددة المنتشرة في جميع أنحاء الصين، وهو تيار ليس له زعماء معينون، وليست له خطة واضحة للإصلاح، ولكنه يتميز بطاقة ثورية هائلة موجهة في المقام الأول ضد الأجانب وما يمثلونه من خطر مادي ومعنوي.
وقد جرب كل من هذه التيارات حظه وساهم بما يستطيع في تطوير الحركة الوطنية في الصين. فأما الرأسماليون المحافظون فقد بدءوا في الظهور كطبقة جديدة ناشئة نتيجة لإقدام التجار وبعض الإقطاعيين وكبار الموظفين على استثمار أموالهم في الصناعة، وقد وجدت الرأسمالية المحلية في بداية نشاتها مقاومة وكراهية من الرأسمالية الاستعمارية والإقطاع الداخلي مما جعلها تأخذ في أول الأمر طابعا وطنيا، ولكن ذلك كلن إلى حين، فسرعان ما انحازت نهائيا إلى صفوف الاستعمار.
أما البورجوازيون الإصلاحيون فكانت لهم حركة قوية في نهاية القرن انتهت بمأساة، وسبب هذه المأساة أنهم وثقوا في الرجعية أكثر مما يجب بل خيل إليهم أنهم مستطيعون تحقيق أهدافهم في الإصلاح عن طلريق نفس الأجهزة الرجعية التي تعوق بطبيعتها التقدم الاجتماعي، كان مثلهم الأعلى جارتهم اليابان التي أخذت بالروح الغربية مع الإبقاء على كل تقاليدها القومية بما فيها النظام الملكي الإمبراطوري، وكان يمثل هذه الحركة رجال من أمثال “كانج يو-وي” و “يانج شي شاو” و”ثان تسي تونج” الذين اشتهروا باطلاعهم الواسع على النظرية السياسية الغربية مع التضلع في التراث الثقافي الصيني. وسيطروا فعلا بأفكارهم على المجرى العام للتفكير في الصين في أواخر القرن التاسع عشر، فأنشأوا الصحف والجمعيات الثقافية والعلميةّ، وروجوا شعارات الإصلاح وقدموا العرائض إلى القصر والمسؤولين شارحين وجهة نظرهم ومحذرين من الهاوية التي تتردى فيها البلاد.
ونجح دعاة هؤلاء في الوصول إلى قلب الإمبراطور الشاب “كونج هسو” الذي كان يواجه مؤامرات في القصر الإمبراطوري تدبرها عمته الداهية “دو –واجرتز وزهسي” ففتح الإمبراطور صدره لدعاة افصلاح وعين “كانج يو وي” وبعض زملائه أعضاء في المجلس الاستشاري الكبير الذي يرأسه الإمبراطور شخصيا لمساعدته في إصدار المراسيم ودراسة المذكرات والعرائض التي ترفع إليه.
وبين شهري يونيو وسبتمر عام 1889 أصدر الإمبراطور “كونج هسو” عددا من مراسيم الإصلاح شملت إلغاء نظام الكتابة التقليدية المعقدة، وتخفيض عدد موظفي الحكومة والحرس الإمبراطوري، وإنشاء بنك وطني ومؤسسة عامة للتعدين والسكك الحديدية وديوان للزراعة والصناعة والتجارة، ووضع مشروع لميزانية الدولة، وإنشاء مدارس حديثة، والتوسع في الصناعات المختلفة، ونشر الكتب والمخترعات وإنشاء مكتب للترجمة عن اللغات الغربية، والأخذ بنظام التدريب الحديث في الجيش، وإقرار حق جميع المواطنين في توجيه النداءات المباشرة إلى الإمبراطور.
وأخطأ دعاة الإصلاح في اعتقادهم أن الأمر لا يتطلب أكثر من إصدار المراسيم حتى يصبح كل شيء على ما يرام، ففي الواقع لم يوضع أي مرسوم منها موضع التنفيذ، بل أثار هذا الاتجاه رد فعل قوي من الدوائر الإقطاعية، وكانت السلطة الحقيقية في البلاط في يد الإمبراطورة الشمطاء “دو – واجرتز وهسي” التي كانت عمة الإمبراطور، وأصبحت وصية على العرش منذ تولى “كوانج هسو” الحكم، وأثناء فترة حكمها الطويل استطاعت أن تجعل الكثير من الوزراء والقادة العسكريين رجالا تابعين لها وظلت تتمتع بالسلطة الحقيقية من وراء العرش، وبالطبع كانت تلك المجموعة المحافظة تخشى الاتجاهات التي تبناها الإمبراطور الشاب فكرست كل قواها لإجهاض حركة الإصلاح، وفي 11 يونيو من نفس العام قامت الإمبراطورة وأعوانها بحركة مضادة مفاجئة فاعتقلوا الإمبراطور كوانج في قصره، وألقوا القبض على جماعة من أنصاره فأعدموا بعضهم وزجوا بآخرين في غياهب السجون، وفر باقي دعاة الإصلاح إلى أعماق الريف أو خارج البلاد، وبذلك بُترت حركة الإصلاح التي استمرت 103 أيام وعرفت بإصلاحات المائة يوم.
والواقع أن السبب الحقيقي لفشل حرمة الإصلاح ليس الإمبراطورة “دو واجر” في حد ذاتها، وإنما لأن هذه الحركة كانت تسعى لتحويل الصين إلى دولة رأسمالية دون القضاء على النظام الإقطاعي فيها، كما كان دعاة الإصلاح هؤلاء يظنون أن في إمكانهم تحقيق أهدافهم عن طريق الإمبراطور الذي مهما بلغ من حسن النية يعتبر قمة الهرم الاجتماعي السياسي الفاسد، وعلى أية حال فقد أثبت فشل هذه الحركة أن الطريق مغلق تماما في وجه الإصلاح البورجوازي في الصين كان دعاة الإصلاح في معزل عن تيار الشعب الهادر، ففي تلك الفترة قام الفلاحون تلقائيا بالثورة ضد العدوان الأجنبي في حركة عرفت بهبة الملاكمين أو البوكسير التي نجحت في سنوات قليلة في اكتساح الصين لتعيد إلى الأذهان حركة التايبينغ.
– ثورة 1911 وميلاد الجمهورية الصينية
بعد فشل الإصلاح وإخماد البوكسير وما أسفرت عنه هاته الانتفاضة من انتكاسات عمقتها هزيمة الصين أمام اليابان، استفحلت الأزمة وبلغت الأوضاع إلى عتمة الانفجار، فلقد ازداد التدخل الأجنبي في شؤون الصين الداخلية، وحصل الأجانب على امتيازات ضخمة سيطروا بها تماما على اقتصاديات الصين ، وتأكد تواطئ السلطة الحاكمة مع القوى الأجنبية بإصدار الإمبراطورة “تزوهسي” سنة 1900 بعد إخماد حركة البوكسير، إعلانا رسميا نصت فيه صراحة على أن “السياسة الخارجية لحكومة الصين تهدف إلى إرضاء الدول الأجنبية بأقصى ما تسمح به موارد الصين”. وقد بلغ من تخاذل الحكومة أنها وقفت موقف المتفرج من الحرب الروسية اليابانية التي دارت على أرض الصين سنة 1904 بحجة التزام الحياد الدقيق، وفي نفس الوقت كانت أعمال التمرد والمعارضة تسود كل أقاليم البلاد، ففي 1903 حدثت 45 حركة تمرد وفي 1904 أكثر من 90 حركة كما أحصت إحدى صحف المرحلة 113 انتفاضة في 1909.
وبموازاة هذا الهيجان الشعبي، كان آلارف الشبان يسافرون إلى الخارج ولا سيما إلى اليابان للدراسة والتحصيل، وتكونت بين صفوفهم عشرات الجمعيات الثورية داخل الصين وخارجها من أهمها: جمعية “رابطة الإصلااح” التي أنشئت عام 1903 في كيانجسو وشيكاينغ، وجمعية “رابطة إحياء الصين” أنشئت في إٌليم هونان سنة 1904، و”جمعية الدراسات اليومية” التي أنشئت في نفس السنة.
وفي سنة 1905 عقد المبعوثون إلى اليابان مؤتمرا في طوكيو أسفر عن تأسيس حزب أطلق على اسمه “تونغ مينغ Tong-ming tunir [حزب “الخلاص الصيني” برئاسة صن يات صن. وقد كان برنامج الحزب يتلخص في ما أسماه بالبلاغ الذي حدد الأهداف الكبرى المنشودة، وهي التخلص من حكم المانشو وإعلان الجمهورية وإنعاش اقتصاديات الصين وتحقيق المساواة في الملكية الزراعية وإنشاء دولة وطنية ديمقراطية، ويبدو واضحا مدى تأثر إيديولوجية حزب “الخلاص الصيني” بالفكر الليبرالي وبالمبادئ الاشتراكية الأولية وقيم الحرية والمساواة والمواطنة، فزعيم الحزب صن يات صن تخرج من جامعة بريطانية بهونج كونج وأتم دراسته في لولايات المتحدة الأمريكية وتأثر على الخصوص بالفكر الاقتصادي الأمريكي ولا سيما كتابات هنري جورج Henri George كما تأثر بكتابات ياكونين ومونتسكيو، على أن أهم كتاب تأثر به هو كتاب الأمريكي لنكولن الذي يحمل عنوان “من الشعب بواسطة الشعب وإلى الشعب” وقد لقي الحزب تأييدا واسعا وتوسعت قاعدته بانضمام عشرات الجمعيات الثورية الأخرى، كما استطاع أن يوصل نفوذه وحدات الجيش الأمبراطوري، معتمدا في بلوغ ذلك على الواجهة الإعلامية والدعائية عن طريق صحيفته “مين باو – صحيفة الشعب” وعن طريق إصدار منشورات وكراسات تعرف بإيديولوجية وأهداف الحزب بين صفوف الشباب.
أدركت حكومة المانشو خطورة الوضع، ولإنقاذ نفسها من المصير المحتوم قررت أن تتحول ذاتيا إلى حكومة دستورية وذلك بإصدار عدد من قوانين الإصلاح وتكوين مجلس استشاري كمحاولة لامتصاص السخط الشعبي المتزايد وللظهور بمظهر الدولة الحديثة أمام الأجانب وكادت أن تنجح هذه المناورة حيث أيدها بعض دعاة الإصلاح المنفيين إثر فشل التجربة الإصلاحية لسنة 1898، وكان هؤلاء قد أسسوا ” الرابطة السياسية” بطوكيو، وأصدروا بيانا يؤيدون فيه التدابير الموعودة، وعادوا إلى الوطن وساهموا في الدفاع عن الإصلاح الدستوري المزعوم، غير أن الطريقة التي كون بها المجلس الاستشاري كانت باعثا على تعميق التدمر إذ أن كل أفراده كانوا ينتمون إلى الأسرة الحاكمة أسرة المانشو التي كان الصينيون يكنون لها عداء تاما. هذا فضلا عن الموقف الصارم الذي تبناه الحزب والداعي إلى رفض هذه المناورة، وقد شكل فشل هذه المحاولة السبب الأول من أسباب اندلاع ثورة 1911. أما السبب الثاني كان يتمثل في القرار الذي أصدرته الحكومة الصينية والذي كان ينص على تامين الخطوط الحديدية وتسليمها كشركة للتسيير الأجنبي مما جعل الصينيين يرون أن الحكومة تصادر أملاكا وطنية وتفوتها لفائدة المستثمرين الأجانب، كل ذلك ساهم في خلق أسباب مزيد من السخط وأعمال التمرد حيث شهدت سنة 1910 أكثر من 284 حركة شارك فيها لأول مرة العمال وممثلو البرجوازية الصغرى إلى جانب الفلاحين، ورفض الناس دفع الضرائب ونهبوا مخازن القمح، وقاوموا البعثات التبشيرية وحطموا مصانع الأجانب ومتاجرهم، وبدا واضحا تجاوز الوضع لأسرة المانشو.
وفي شهر أكتوبر 1911 بدأت المراحل الأولى للثورة بإضراب عام أعلنه التجار و الذي انطلق من الأقاليم الجنوبية ليعم الصين الوسطى ثم أقاليم الشمال، وارتفعت الشعارات تندد بأسرة المانشو وبالوجود الأجنبي، بعد ذلك انطلقت الثورة المسلحة وكانت انطلاقتها من مركز استراتيجي ومنطقة نفوذ سياسي وعسكري لأسرة المانشو وهي مدينة “يونغ تسي” حيث يوجد أكبر معامل الأسلحة، فقام العمال بمهاجمة إدارة المعمل والاستيلاء على الأسلحة والإعلان عن السيطرة على المدينة، وبعد ذلك تشكلت فرق عسكرية توجهت للاستيلاء على العاصمة، والقضاء على الأمبراطورية وتكوين الجمهورية الصينية.
غير أن هذا الوليد الثوري جاء مخلوقا مشوها، ذلك أنه عند تكوين الجمهورية الصينية استُدعي صن يات ليترأس هاته الجمهورية، لكنه تأخر في العودة، واعترف بضرورة تأمين التأبيد الخارجي للثورة. كما أن حزب الخلاص الصيني لم يكن مستعدا بخطة مدروسة لتوجيه الحركة الكاسحة، فكان ذلك مناسبة وفرصة لطموح شخصية أعلنت عن تقلدها منصب رئيس الجمهورية، وكان وصول هاته الشخصية إلى الحكم من أهم المفارقات التي عرفتها الثورة الصنينية، لقد اضطر صن يات إلى التنازل عن رئاسة الحكومة المؤقتة إلى هاته الشخصية (يوان شي كاي) مشترطا عليه قطع العلاقة مع أسرة المانشو واحترام مقتضيات الدستور المؤقت. وفي فبراير 1912 تنازل الإمبراطور الطفل (هسيوان تونج) عن العرش وتولى (يوان شي كاي) رئاسة جمهورية الصين الجديدة، وقد كان هذا الأخير وزير الدفاع وممثلا لكبار الملاك وخادما للأجانب، ساهم في خيانة حركة الإصلاح المعروفة بإصلاح المائة يوم (1898)، كما انضم إلى القوات الأجنبية من أجل سحق انتفاضة البوكسير وهو أيضا القائد العسكري الذي استنجدت به أسرة المانشو عند قيام ثورة الجمهورية، لكنه تسلل إلى صفوف الثورة بعد أن تيقن من عجز المانشو عن مواجهة هذه الثورة، وأصبح من مناصريها والمدافعين عنها، ومن القصر الأمبراطوري أعلن نفسه رئيسا للجمهورية الصينية.
لقد أثارت ثورة 1911 مجموعة من التساؤلات حول ماهيتها هل هي ثورة وطنية؟ هل هي ثورة ضد حكومة المانشو؟ ما هو مستقبلها؟
صفوة القول إنه إذا كانت الثورة قد فشلت في تغيير الأوضاع حذريا فإنها في ذات الوقت قد نجحت في القضاء على النظام السياسي الأمبراطوري الذي استمر آلاف السنين وزرعت فكرة الجمهورية الديمقراطية في قلوب الصينيين.