المادة: تاريخ العرب قبل الاسلام
مدرس المادة: خالد تركي عليوي فريح
المرحلة: الاولى/قسم التاريخ/ كلية التربية الاساسية/ جامعة ديالى
العام الدراسي:2014م/2015م/ المحاضرة الاولى.
بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان المحاضرة: موارد دراسة تاريخ العرب قبل الاسلام:
يعد تاريخ العرب في عصر ما قبل الاسلام اضعف قسم كتبه المؤرخون العرب عن احداث تلك الحقبة من الزمن ,واغلب ما وصلنا عن تاريخ العرب في تلك المرحلة لا يعدو ان يكون اساطير وروايات خرافية وقصص شعبي , واخبار اخذت عن اهل الكتاب ولاسيما اليهود , واخرى وضعها الاخباريون في العصر الاسلامي ,وقد استمر الاعتماد على هذه الموارد حتى القرن التاسع عشر, حيث قام المؤرخين والاخباريون بالبحث عن مصادر اخرى لهذا التاريخ, ووجهوا اهتمامهم الى النقوش والكتابات العربية التي دونها العرب قبل الاسلام , فترجموا كثيراً من هذه النصوص الى لغاتهم , وعملوا على نشرها بالمسند وبالحروف اللاتينية او العبرانية او العربية في بعض الاحيان , وعلى استخلاص ماورد فيها من امور متنوعة عن التاريخ العربي.
وبفضل هذه الجهود التي بذلها المؤرخون والاثاريون امكن الحصول على اخبار دول واقوام عربية لم يرد لها ذكر في المصادر الاسلامية ,لان اخبار تلك الدول واولئك الاقوام كانت قد انقطعت وطمست قبل الاسلام, فلم تبلغ اهل الاخبار ,ومما ساعد المستشرقين على شرح تلك الكتابات وتفسيرها , معرفتهم بلغات عديدة كالعبرانية والسريانية والبابلية , وكان للسياح الذين جابوا مواضع متعددة من جزيرة العرب لاسيما القسم الغربي والجنوبي منها فضل كبير في بعث الحياة في الكتابات التي تتصل بتاريخ العرب قبل الاسلام فقد اخذ أولئك السياح بعض الكتابات وصوروا البعض الاخر, وبفضل التعاون مع علماء اللغات الشرقية امكن حل رموز تلك الكتابات, واستطاعوا بذلك تدوين ما توصلوا الية من التاريخ القديم الذي بين ايدينا الان, لقد كلف البحث عن هذه الكتابات العلماء والسياح، ثمنا غاليًا كلفهم حياتهم في بعض الأحيان، ولم يكن من السهل تجول هؤلاء الأوروبيين بأزياء مختلفة في أماكن تغلب عليها الطبيعة الصحراوية للحصول على معلومات عن الخرائب والعاديات والحصول على ما يمكن الحصول عليه من نقوش وكتابات.
والتاريخ الجاهلي مع ذلك في أول مرحلة من مراحله وفي الدرجات الأولى من سلم طويل متعب. ولا يُنتظر التقدم أكثر من ذلك؛ إلا إذا سهّل للعلماء التجوال في بلاد العرب، لدراستها من جميع الوجوه، وللبحث عن العاديات، ويسرت لهم سبل البحث، ووضعت أمامهم كل المساعدات الممكنة التي تأخذ بأيديهم إلى الكشف عن مواطن ذلك التاريخ والبحث عن مدافن كنوز الآثار تحت الأتربة واستخراجها وحلّ رموزها، لجعلها تنطق بأحوالها في تلك الأيام. وتلك مسئولية لن تُفهم إلّا إذا فهم العرب وعلى رأسهم الحاكمون منهم أن من واجبهم المحافظة على تأريخ العرب القديم بصيانة موطن الآثار ومنع الاعتداء عليها، بإنزال أشدّ العقوبات فيمن يحطم تمثالًا؛ لاعتقاده بإنه صنم، أو يهدم أثرًا للاستفادة من حجره، أو ما شابه ذلك من هدم وتخريب.
لم يطمئن المستشرقون إلى هذا المرويّ في الكتب العربية عن التاريخ الجاهلي ولم يكتفوا به، بل رجعوا إلى مصادر وموارد ساعدتهم في تدوين هذا الذي نعرفه عن تاريخ الجاهلية، وهو شيء قليل في الواقع؛ ولكنه مع ذلك خير من هذا القديم المتعارف وأقرب منه إلى التأريخ، وقد تجمعت مادته من هذه الموارد:
1-النقوش والكتابات.
2 التوراة والتلمود والكتب العبرانية الأخرى.
3 الكتب اليونانية واللاتينية والسريانية ونحوها.
4 المصادر العربية الإسلامية.
5- النقوش والكتابات:
تعد النقوش والكتابات في طليعة المصادر التي تكوّن التاريخ الجاهلي، وهي وثائق ذات شأن؛ لأنها الشاهد الناطق الحي الوحيد الباقي من تلك الأيام، وأريد أن أقسمها إلى قسمين: نقوش وكتابات غير عربية تطرقت إلى ذكر العرب كبعض النصوص الأشورية أو البابلية، ونصوص وكتابات عربية كتبت بلهجات مختلفة، منها ما عثر عليها في العربية الجنوبية، ويدخل ضمنها تلك التي وجدت في مصر أو في بعض جزر اليونان أو في الحبشة، وهي من كتابات المعينيين والسبئيين، ومنها ما عثر عليها في مواضع أخرى من جزيرة العرب، مثل أعالي الحجاز وبلاد الشام والعربية السعودية والكويت ومواضع أخرى، وكل ما عثر أو سيعثر عليه من نصوص في جزيرة العرب مدونًا بلهجة من اللهجات التي تعارف علماء العرب أو المستشرقون على اعتدادها من لغات العرب.
وأغلب الكتابات الجاهلية التي عثر عليها هي، ويا للأسف، في أمور شخصية، ولذلك انحصرت فوائدها في نواحٍ معينة، في مثل الدراسات اللغوية، وأقلها النصوص التي تتعرض لحالة العرب الساسية، أو الأحوال الاجتماعية أو العلمية أو الدينية أو النواحي الثقافية والحضارية الأخرى، ولهذا بقيت معارفنا في هذه النواحي ضحلة غير عميقة. وكل أملنا هو في المستقبل؛ فلعله سيكون سخيًا كريمًا، فيمدنا بفيض من مدونات لها صلة وعلاقة بهذه الأبواب، وينقذنا بذلك من هذا الجهل الفاضح الذي نحن فيه، بتاريخ العرب قبل الإسلام.
بل حتى النصوص العربية الجنوبية التي عثر عليها حتى الآن هي في أمور شخصية في الغالب، من مثل إنشاء بيت، أو بناء معبد، أو بناء سور، أو شفاء من مرض، ولكنها أفادتنا، مع ذلك، فائدة كبيرة في تدوين تاريخ العرب الجنوبيين؛ فقد أمدتنا بأسماء عدد من الملوك، ولولاها لما عرفنا عنهم شيئًا. ونظرًا إلى ما نجده في بعض النصوص من إشارات إلى حروب1، ومن صلات بين ملوك الدول العربية الجنوبية، ونظرًا إلى كون بعض الكتابات أوامر ملكية وقوانين في تنظيم الضرائب وتعيين حقوق الغرباء وفي أمور عامة أخرى لهاعلاقة بصلة الحكومات بشعوبها، ونظرًا إلى ما عرفناه من ميل إلى الحضارة والاستقرار والعمل والبناء، وفي حكوماتهم من تنظيم وتنسيق في الأعمال؛ فإننا نأمل الحصول في المستقبل على وثائق تعطينا مادة مهمة جديدة عن تأريخ العرب الجنوبيين وعن صلاتهم ببقية العرب أو بالعالم الخارجي؛ لأن جماعة تهتم هذا الاهتمام بالأمور المذكورة، لا يمكن أن تكون في غفلة عن أهمية تدوين التاريخ وتختلف الكتابات العربية الجنوبية طولًا وقصرًا تبعًا للمناسبات وطبيعة الموضوع،وتتشابه في المضمون وفي إنشائها في الغالب؛ لأنها كتبت في أغراض شخصية متماثلة. ومن النصوص الطويلة المهمة، نصّ رقمة العلماء رقم: “c.i.h. 1450“، وقد كتب لمناسبة الحرب التي نشبت بين قبائل حاشد وقبائل حمير في مدينة “ناعط”1، ونص رقمة “c.i.h 4334“، وقد أمر بتدوينه الملك “شعر أوتر بن علهان نهفان” “شعر أوتر بن علهن نهفن”، “80- 50 ق. م”2، ونص “أبرهة” نائب ملك الحبشة على اليمين “عزلي”، وهو يحوي كتابة مهمة تتألف من “136” سطرًا، يرتقي تاريخها إلى سنة 658 الحميرية أو 543م وقد كتب بحميرية رديئة ركيكة، ونص يرتقي تاريخه إلى سنة 554م.
أما الكتابات المكتوبة باللهجات التي يطلق عليها المستشرقون اللهجات العربية الشمالية؛ فقليلة. ويراد بهذه اللهجات القريبة من عربية القرآن الكريم، وأما الكتابات التي وجد أنها مكتوبة بالثمودية أو اللحيانية أو الصفوية؛ فإنها عديدة، وهي قصيرة، وفي أمور شخصية، وقد أفادتنا في استخراج أسماء بعض الأصنام وبعض المواضع وفي الحصول على أسماء بعض القبائل وأمثال ذلك.
تاريخ الكتابات:
والكتابات المؤرخة قليلة. هذا أمر يؤسف عليه؛ إذ يكون المؤرخ في حيرة من أمره في ضبط الزمن الذي دوّن فيه النص، ولم نتمكن حتى الآن من الوقوف على تقويم ثابت كان يستعمله العرب قبل الإسلام، مدة طويلة في جزيرة العرب. والذي تبين لنا حتى الآن هو أنهم استعملوا جملة طرق في تأريخهم للحوادث، وتثبيت زمانها؛ فأرخوا بحكم الملوك، فكانوا يشيرون إلى الحادث بأنه حدث في أيام الملك فلان، أو في السنة كذا في حكم الملك فلان. وأرخوا كذلك بأيام الرؤساء وسادات القبائل وأرباب الأسر وهي طريقة عرفت عند المعينين والسبئيين والقتبانيين وعند غيرهم من مختلف أنحاء جزيرة العرب.
والكتابات المؤرخة بهذه الطريقة، وإن كانت أحسن حالًا من الكتابات المهملة التي لم يؤرخها أصحابها بتاريخ؛ إلا أننا قلما نستفيد منها فائدة تذكر؛ إذ كيف يستطيع مؤرخ أن يعرف زمانها بالضبط، وهو لا يعرف شيئًا عن حياة الملك الذي أرخت به الكتابة أو حكمه، أو زمانه، أو زمان الرجال الذين أرخ بهم؟ لقد فات أصحاب هذه الكتابات أن شهرة الإنسان لا تدوم، وأن الملك فلانًا، أو رب الأسرة فلانًا، أو الزعيم فلانًا ربما لا يعرف بعد أجيال، وقد يصبح نسيًا منسيًا، لذلك لا يجدي التأريخ به شيئا، وذاكرة الإنسان لا تعي إلا الحوادث الجسام. لهذا السبب لم نستفيد من كثير من هذه الكتابات المؤرخة على وفق هذه الطريقة، وأملنا الوحيد هو أن يأتي يوم قد نستفيد فيه منها في تدوين التأريخ.
نرى من ذلك أن التاريخ بأعوام الرجال كان يتضمن شهورًا؛ غير أننا لانستطيع أن نجزم بأن هذه الشهور كانت ثابتة لا تتغير بتغير الرجال، أو أنها كانت تتبدل بتبدل الرجال. والرأي الغالب هو أنها وضعت في وضع يلائم المواسم وأوقات الزراعة. ويظهر أنهم كانوا يستعلمون أحيانًا مع هذا التقويم تقويمًا آخر هو التقويم الحكومي، وكان يستند إلى السنين المالية، أي سني جمع الضرائب. وتختلف أسماء شهور هذا التقويم عن أسماء شهور التقاويم التي تؤرخ بالرجال .
ويظهر أن العرب الجنوبيين كانوا يستعملون التقويم الشمسي في الزراعة، كما كانوا يستعملون التقويم القمري والتقويم النجمي أي التقويم الذي يقوم على رصد النجوم ,وقد اتخذ الحميريون منذ سنة “115 ق. م” تقويمًا ثابتًا يؤرخون به، وهي السنة التي قامت فيها الدولة الحميرية -على رأي بعض العلماء- فأخذ الحميريون يؤرخون بهذا الحادث، واعتدوه مبدأ لتقويهم. وقد درسه المستشرقون؛ فوجدوه يقابل السنة المذكورة قبل الميلاد والكتابات المؤرخة بموجب هذه الطريقة لها فائدة كبيرة جدًا في تثبيت التاريخ.
وقد ذهب بعض الباحثين حديثًا إلى أن مبدأ تأريخ حمير يقابل السنة “109 ق. م” أي بعد ست سنوات تقريبًا من التقدير المذكور، وهو التقدير المتعارف عليه. والفرق بين التقديرية غير كبير,ومن النصوص المؤرخة، نصّ تأريخه سنة 385 من سني التقويم الحميري. وإذا ذهبنا مذهب الغالبية التي تجعل بداية هذا التقويم سنة “115 ق. م”، عرفنا أن تاريخ هذا النص هو سنة 27م تقريبًا، وصاحبه هو الملك “يسر يهنعم” ياسر يهنعم” “ياسر ينعم” ملك سبأ وذو ريدان وابنه “شمر يهرعش”1، وللملك “ياسر يهنعم” نصّ آخر يعود تاريخه إلى سنة 374 من سني التقويم الحميري، أي إلى سنة “295م”2. “ولشمر يهرعش”3 كتابة أمر بتدوينها سنة 396 للتقويم الحميري، أي سنة 281م4. وقد ورد اسمه في نصوص أخرى، وقد لقّب نفسه بلقب “ملك سبأ وذو ريدان”، ولقّب نفسه في مكان آخر بلقب “ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت”، مما يدل على أنه كان قد وسّع ملكه، وأخضع الأرضين المذكورة لحكمه1، وهي نصوص متأخرة بالنسبة إلى النصوص الأخرى.
ولما أراد الملك “شرحبيل يعفر بن أبي كرب أسعد” “ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال والسواحل” بناء السدّ، أمر بنقش تاريخ البناء على جداره. وقد عثر عليه، وإذا به يقول: إن العمل كان في سنة 564 -565 الحميرية، وهذا يوافق عامي 449- 450 من الأعوام الميلادية2. وبعد ثماني سنوات من هذا التأريخ، أي في عام 457- 458 من التأريخ الميلادي “572- 573 حميري”، وضع عبد كلال نصًّا تاريخيًا يذكر فيه اسم “الرحمن”، ولهذين النَّصّين أهمية عظيمة جدًا من الناحية الدينية. يذكر النص الأول “إله السماوات والأرضين”، ويذكر الثاني “الرحمن”. وتظهر من هذه الإشارة فكرة التوحيد على لسان ملوك اليمن وزعمائها ,وقد عثر على نصَّين آخرين ورد فيهما اسم الملك، “شرحب آل يكف” و “شرحبيل يكيف”. تأريخ أحدهما عام 582 الحميري “467م”، وتأريخ النص الثاني هو سنة 585 الحميرية، الموافقة لسنة 470م4.
ومن النصوص الآثارية المهمة، نصّ حصن غراب. وهذا النص أمر بكتابته “السميفع أشوى” “السميفع أشوع” وأولاده، تخليدًا لذكرى انتصار الأحباش على اليمانيين في عام 525م “سنة 640 الحميرية”5. ويليه النص الذي أمر أبرهة حاكم اليمن في عهد الأحباش بوضعه على جدران سدّ مأرب لما قام بترميم السدّ وإصلاحه في عام 657 الحميري، الموافق لعام 542م6.
وآخر ما نجده من نصوص مؤرخة، نصّ وضع في عام 669 لتقويم حمير “يوافق عام 554م”7. ولم يعثر المنقبون بعد هذا النص على نصّ آخر يحمل تأريخًا. نعم، عثروا على نصوص كثيرة تشابه في مضمونها وعباراتها وألفاظها النصوص التي أقيمت في الفترة بين 439م وسنة 554م، وهذا يبعث على احتمال كون هذه النصوص مكررة، وأنها من هذا العهد الذي بحثنا عنه آنفًا1.
هذا، وإن مما يلاحظ على الكتابات العربية الجنوبية أن التي ترجع منها إلى العهود القديمة من تأريخ جنوب بلاد العرب قليلة. وكذلك الكتابات التي ترجع إلى العصور الحميرية المتأخرة، أي القريبة المتصلة بالإسلام؛ ولذلك أصبحت أكثر الكتابات التي عثر عليها حتى الآن من العهود الوسطى المحصورة بين أقدم عهد من عهود تأريخ اليمن وبين أقرب عهود اليمن إلى تأريخ الإسلام، وأكثرها خلو من التأريخ غير عدد منها يرد فيه أسماء ملوك وملكات أرخت بأياّمهم.
لكننا لا نستطيع تعيين تأريخ مضبوط لزمانهم؛ لعدم وجود سلسلة لمن حكم أرض اليمن، ولعدم وجود جداول بمدد حكمهم، ولفقدان الإشارة إلى من كان يعاصرهم من الملوك والأجانب.
وقد كان ما قدمناه يتعلق بالكتابات العربية الجنوبية المؤرخة. أما الكتابات العربية الشمالية المؤرخة، فهي معدودة، وهي لا تعطينا لهذا السبب فكرة علمية عن تأريخ الكتابات في الأقسام الشمالية والوسطى من بلاد العرب. وقد أرخ شاهد قبر “امرئ القيس” في يوم 7 بكسلول من سنة 223 “328م”. وهذه السنة هي من سني تقويم بصرى bostra، وكان أهل الشام وحوران وما يليهما يؤرخون بهذا التقويم في ذلك العهد، ويبدأ بدخول بصرى في حوزة الروم سنة 105م,
وعثر على كتابة في خرائب “زيد” بين قنسرين ونهر الفرات جنوب شرقي حلب، كتبت بثلاث لغات: اليونانية والسريانية والعربية، يرجع تأريخها إلى سنة “823 للتقويم السلوقي”، الموافقة لسنة 512م. والمهم عندنا، هو النص العربي؛ ولا سيما قلمه العربي. أما من حيث مادته اللغوية، فإن أكثر ما ورد فيه أسماء الرجال الذين سعوا في بناء الكنسية التي وضعت فيها الكتابة .
وأرخت كتابة “حرّان” اليونانية بسنة أربع مائة وثلاث وستين من الأندقطية الأولى، وهي تقابل سنة 568م، والأندقطية، هي دائرة ثماني سنين عند الرومانيين، وكانت تستعمل في تصحيح تقويم السنة1. أما النص العربي، فقد أرخ “بسنة 463 بعد مفسد خيبر بعم “عام”2. ورأي الأستاذ “ليتمن” أن عبارة “بعد مفسد خيبر بعم” تشير إلى غزوة قام بها أحد أمراء غسان لخيبر3. وفي استعمال هذه الجملة التي لم ترد في النص اليوناني، دلالة على أن العرب الشماليين كانوا يستعملون التورايخ المحلية، كما كانوا يؤرخون بالحوادث الشهيرة التي تقع بينهم.
أما الكتابات الصفوية والثمودية واللحيانية، فإن من بينها كتابات مؤرخة؛ إلا أن توريخها لم يفدنا شيئًا أيضًا. فقد أرخت على هذا الشكل: “يوم نزل هذا المكان” أو “سنة جاء الروم”. ومثل هذه الحوادث مبهمة، لا يمكن أن يستفاد منها في ضبط حادث ما.
هذا وقد أشار “المسعودي” إلى طرق للجاهليين في توريخ الحوادث، تتفق مع ما عثر عليه في الكتابات الجاهلية المؤرخة، فقال: “وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة؛ فأما حمير وكهلان ابنا سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بأرض اليمن، فإنهم كانوا يؤرخون بملوكهم السالفة من التبابعة وغيرهم” , ثم ذكر أنهم أرخوا أيضًا بما كان يقع لديهم من أحداث جسيمة في نظرهم، مثل “نار صوان”، وهي نار كانت تظهر ببعض الحرار من أقاصي بلاد اليمن، ومثل الحروب التي وقعت بين القبائل والأيام الشهيرة. وقد أورد جريدة بتواريخ القبائل إلى ظهور الإسلام5. وذكر “الطبري” أن العرب “لم يكونوا يؤرخون بشيء من قبل ذلك؛ غير أن قريشًا كانوا -فيما ذكر- يؤرخون قبل الإسلام بعام الفيل، وكان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المذكورة كتأريخهم بيوم جبلة وبالكلاب الأول والكلاب الثاني” .
وقد ذكر المسعودي أن قدوم أصحاب الفيل مكة، كان يوم أحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثمانية واثنين وثمانين سنة للإسكندر، وست عشرة سنة ومائتين من تاريخ العرب الذي أوله حجة العدد1 “حجة الغدر”2، ولسنة أربعين من ملك كسرى أنوشروان3. ولم يشر المسعودي إلى العرب الذين أرَّخوا بالتقويم المذكور؛ غير أننا نستطيع أن نقول إن “المسعودي” قصد بهم أهل مكة، لأن حملة “أبرهة” كانت قد وجهت إلى مدينتهم، وأن الحملة المذكورة كانت حادثًا تاريخيًّا بالنسبة إليهم، ولذلك أرَّخوا بوقت وقوعها.
ويرى كثير من المستشرقين والمشتغلين بالتقاويم وبتحويل السنين وبتثبيتها، وفقًا لها، أن عام الفيل يصادف سنة “570” أو “571” للميلاد، وبذلك يمكن اتخاذ هذا العام مبدئًا نؤرخ به على وجه التقريب الحوادث التي وقعت في مكة أو في بقية الحجاز والتي أرخت بالعام المذكور.
2- التوراة والتلمود والتفاسير والشروح العبرانية:
وقد جاء ذكر العرب في مواضع من أسفار التوراة تشرح علاقات العبرانيين بالعرب. والتوراة مجموعة أسفار كتبها جماعة من الأنبياء في أوقات مختلفة، كتبوا أكثرها في فلسطين. وأما ما تبقى منها، مثل حزقيال والمزامير؛ فقد كتب في وادي الفرات أيام السبي، وأقدم أسفار التوراة هو سفر “عاموس” “amos“، ويظن أنه كتب حوالي سنة 750 ق. م ,وأما آخر ما كتب منها، فهو سفر “دانيال” “Daniel” والإصحاحان الرابع والخامس من سفر “المزامير”. وقد كتب هذه في القرن الثاني قبل المسيح ,فما ذكر في التوراة عن العرب يرجع تاريخه إذن إلى ما بين سنة 750 والقرن الثاني قبل المسيح.
وقد وردت في التلمود “Talmud” إشارات إلى العرب كذلك. وهناك نوعان من التلمود الفلسطيني أو التلمود الأورشليمي “yeruschalmi” كما يسميه العبرانيون اختصارًا، والتلمود البابلي نسبة إلى “بابل” بالعراق، ويعرف عندهم باسم “بابلي” اختصارًا,أما التلمود الفلسطيني؛ فقد وضع، كما يفهم من اسمه، في فلسطين. وقد تعاونت على تحبيره المدارس اليهودية “academies” في الكنائس “الكنيس”. وقد كانت هذه مراكز الحركة العلمية عند اليهود في فلسطين، وأعظمها هو مركز “طبرية” “tiberias“، وفي هذا المحل وضع الحبر “رابي يوحان” “rabbi jochanan” التلمود الأورشليمي في أقدم صورة من صوره في أواسط القرن الثالث الميلادي وتلاه بعد ذلك الأحبار الذين جاءوا بعد “يوحنان” وهم الذين وضعوا شروحًا وتفاسير عدة تكون منها هذا التلمود الذي اتخذ هيأته النهائية في القرن الرابع الميلادي,وأما التلمود البابلي؛ فقد بدأ بكتابته -على ما يظهر- الحبر “آشي” “rabbi ashi” المتوفى عام 430م، وأكمله الأحبار من بعده، واشتغلوا به حتى اكتسب صيغته النهائية في أوائل القرن السادس للميلاد1. ولكل تلمود من التلمودين طابع خاص به، هو طابع البلد الذي وضع فيه؛ ولذلك يغلب على التلمود الفلسطيني طابع التمسك بالرواية والحديث. وأما التلمود البابلي، فيظهر عليه الطابع العراقي الحر وفيه عمق في التفكير، وتوسع في الأحكام والمحاكمات، وغني في المادة. وهذه الصفات غير موجودة في التلمود الفلسطيني .
وبهذا يكمل التلمود أحكام التوراة، وتفيدنا إشارته من هذه الناحية في تدوين تأريخ العرب. أما الفترة بين الزمن الذي انتهى فيه من كتابة التوراة والزمن الذي بدأ فيه بكتابة التلمود؛ فيمكن أن يستعان في تدوين تاريخها بعض الاستعانة بالأخبار التي ذكرها بعض الكتاب، ومنهم المؤرخ اليهودي “يوسف فلافيوس” “جوسفوس فلافيوس “josephUs flavius” الذي عاش بين سنة 37 و 100 للمسيح تقريبًا. وله كتاب باللغة اليونانية في تأريخ عاديات اليهود “Joudaike archaioloigia“، تنتهي حوادثه بسنة 66 للميلاد، وكتاب آخر في تأريخ حروب اليهود”peri tou JOUDIAKOU POLEMOU” من استيلاء “أنطيوخس أفيفانوس” “Antiochus epiphanos” على القدس سنة 170 قبل الميلاد، إلى الاستيلاء عليها مرة ثانية في عهد “طيطس” “titus” سنة 70 بعد الميلاد، وكان شاهد عيان لهذه الحادثة. وقد نال تقدير “فسبازيان” “vespasIan” و”طيطس” وأنعم عليه بالتمتع بحقوق المواطن الروماني .
وفي كتبه معلومات ثمينة عن العرب، وأخبار مفصلة عن العرب الأنباط، لا نجدها في كتاب ما آخر قديم. وكان الأنباط في أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات، فتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى تتصل بالبحر الأحمر5. وقد عاصرهم هذا المؤرخ؛ غير أنه لم يهتم بهم إلا من ناحية علاقة الأنباط بالعبرانين، ولم تكن بلاد العرب عنده إلا مملكة الأنباط6.
هذا وإن للشروح والتفاسير المدونة على التوراة والتلمود قديما وحديثًا، وكذلك للمصطلحات العبرانية القديمة على اختلاف أصنافها أهمية كبيرة في تفهم تاريخ الجاهلية، وفي شرح المصطلحات الغامضة التي ترد في النصوص العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام؛ لأنها نفسها وبتسمياتها ترد عند العبرانيين في المعاني التي وضعها الجاهليون لها. وقد استفدت كثيرًا من الكتب المؤلفة عن التوراة مثل المعجمات في تفهم أحوال الجاهلية، وفي زيادة معارفي بها، ولهذا أرى أن من اللازم لمن يريد درس أحوال الجاهلية، التوغل في دارسة تلك الموارد وجميع أحوال العبرانيين قبل الإسلام.
3- الكتب الكلاسيكية:
وأقصد بالكتب “الكلاسيكية” الكتب اليوانية واللاتينية المؤلفة قبل الإسلام ولهذه الكتب -على ما فيها من خطأ- أهمية كبيرة؛ لأنها وردت فيها أخبار تاريخية وجغرافية كبيرة الخطورة، ووردت فيها أسماء قبائل عربية كثيرة لولاها لم نعرف عنها شيئًا. وقد استقى مؤلفوها وأصحابها معارفهم من الرجال الذين اشتركوا في الحملات التي أرسلها اليونان أو الرومان إلى بلاد العرب، ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل بلاد العرب أو أقاموا مدة بين ظهرانيهم، ولا سيما في بلاد الأنباط، ومن التجار وأصحاب السفن الذين كانوا يتوغلون في البحار وفي بلاد العرب للمتاجرة، وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تعنى عناية خاصة بجمع الأخبار عن بلاد العرب وعادات سكانها وما ينتج فيها لتقديمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط. وقد استقى كثير من الكتّاب “الكلاسيكيين” معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصارد التجارية العالمية.
وتتحدث الكتب الكلاسيكية جازمةً عن وجود علاقات قديمة كانت بين سواحل بلاد العرب وبلاد اليونان والرومان، وتتجاوز بعض هذه الكتب هذه الحدود فتتحدث عن نظرية قديمة كانت شائعة بين اليونان، وهي وجود أصل دموي مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان. وتفصح هذه النظرية، على ما يبدو منها من سذاجة، على العلاقات العريقة في القِدَم التي كانت تربط سكانالبحر المتوسط الشماليين بسكان الجزيرة العربية .
ومن أقدم من ذكر العرب من اليونانيين “أخيلس” “aescylus” “525- 456 ق. م”، و “هيرودتس” “480- 425 ق. م” وقد زار مصر، وتتبع شئون الشرق وأخباره بالمشاهدة والسماع، ودوّن ما سمعه، ووصف ما شاهده في كتاب تاريخي. وهو أول أوروبي ألّف كتابًا بأسلوب منمق مبوب في التاريخ ووصل مؤلفه إلينا، وقد لقبه “شيشرون” “Cicero” الشهير بلقب “أيي التأريخ”.
تناول “هيرودتس” تاريخ الصراع بين اليونان والفرس، وإن شئت فسمه “النزاع الأوروبي الآسيوي”؛ فألف عن تاريخه. والظاهر أنه لم يتمكن من إتمامه؛ ففيه فصول وضعت بعد وفاته. وهو أول كاتب يوناني اتخذ من الماضي موضوعًا للحاضر ومادة للمناقشة، بعد أن كان البحث في أخبار الأيام السالفة مقصورًا على ذكر الأساطير والقصص الشعبية والدينية. وهو مع حرصه على النقد والمحاكمة، لم يتمكن أن يكون بنجوة من الأفكار الساذجة التي كانت تغلب على ذلك العالم الابتدائي في ذلك العهد, فحشر في كتابه قصصًا ساذجًا وحكايات لا يصدقها العقل، متأثرًا بعقلية زمانه في التصديق بأمثال هذه الأمور.
ومنهم “ثيوفراستوس” “Theophrastus“، “حوالي 371- 287 ق. م”، مؤلف كتاب “historia plantarum” وكتاب “de causis plantarum” وفي خلال حديثه عن النبات تطرّق إلى ذكر البقاع العربية التي كانت تنمو بها مختلف الأشجار، ولا سيما المناطق الجنوبية التي كانت تصدر التمر واللبان والبخور والأفاويه, و “إيراتو ستينس” “eratosthenes” “276- 194 ق. م”. وقد استفاد الكتّاب اليونانيون الذين جاءوا من بعده من كتاباته، ونجد في مواضع مختلفة من جغرافية “سترابون أقوالًا معزوّة إليه “.
ونضيف إلى من تقدموا “ديودورس الصقلي” diodorus siculus” “40ق. م”. وقد ألف باللغة اليونانية تاريخًا عامًا سماه “المكتبة التأريخية” bibliotheke historike، تناول تاريخ العالم من عصر الأساطير حتى فتح “يوليوس قيصر” لإقليم “الغال”. وهو في أربعين جزءًا، لم يبقَ منها سوى خمسة عشر جزءًا، تبحث في الحقبة المهمة التي تبتدئ بسنة 480 ق. م. وتنتهي بسنة 323 ق. م1. ويعوز هذا المؤرخ النقد؛ لأنه جمع في كتابه كل ما وجده في الكتب القديمة من أخبار ولم يمحصها، وقد امتلأ كتابه بالأساطير، والعالم مع ذلك مدين له إلى حد كبير بمعرفة أخبار الماضين؛ ولا سيما الأساطير الدينية القديمة.
ومن المؤلفين الكلاسيكيين، “سترابون” “سترابو” “straabon” “strabo” “64ق. م- 19 م” وهو رحالة كتب كتابًا مهما باللغة اليونانية في سبعة عشر جزءًا سماه “جغرافيا”2 “geographica“. وقد وصف فيه الأحوال الجغرافية الطبيعية لمقاطعات الإمبراطورية الرومانية الرئيسية، وتاريخها، وحالات سكانها، وغريب عهاداتهم وعقائدهم. وللكتاب شأن كبير؛ إذا اشتمل على كثير من الأخبار التي لا تتيسر في كتاب آخر. وقد اعتمد فيه على ما ذكره الكتّاب السابقون.
وقد أفرد “سترابون” في جغرافيته فصلًا خاصًا من الكتاب السادس عشر ببلاد العرب، ذكر فيه مدائن العرب وقبائلهم في عهده، ووصف أحوالهم التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وحملة “أوليوس غالوس” “أوليوس كالوس” “aelius gallus” المعروفة لفتح بلاد العرب وما كان من إخفاقه. ولأخبار هذه الحملة التي دوّنها “سترابوان” في جغرافيته، أهيمة خاصة؛ إذ جاءت بمعلومات عن نواحي من تأريخ العرب نجهلها، وقد شارك هو نفسه في الحملة، وقد كان صديقًا لقائدها؛ فوصفه وصف شاهد عيان3. وقد استهل وصف الحملة بهذه العبارة: “لقد علمتنا الحملة التي قام بها الرومان على بلاد العرب بقيادة أوليوس غالوس في أيامنا هذه أشياء كثيرة عن تلك البلاد, وممن تحدث عن العرب “بلينيوس” “بليني الأقدم” “pliny the elder” “galus plinius secundus” المتوفى سنة 79م، ومن كتبه المهمة كتابه “التأريخ الطبيعي” “naturalis historia” في سبعة وثلاثين قسمًا، وقد نقل في كتابه عمن تقدمه، ولا سيما معلوماته عن بلاد العرب والشرق وجميع ما أمكنه جمعه؛ غير أنه أتى في أماكن متعددة من كتابه بأخبار لم يرد لها ذكر من كتب المؤرخين الآخرين .
وهناك مؤلف يوناني مجهول، وضع كتابًا سماه “الطواف حول بحر الأريتريا”3 “The Periplus of the Erythraean Sea” “Periplus Maris Erythraei” أتمه في نهاية القرن الأول للمسيح في رأي بعض العلماء، أو بعد ذلك في حوالي النصف الأول من القرن الثالث للميلاد في رأي بعض آخر4. وقد وصف فيه تطوافه في البحر الأحمر وسواحل البلاد العربية الجنوبية. والظاهر أنه كان علامًا بأحوال الهند وشواطئ إفريقية الشرقية، ولعله كان تاجرًا من التجار الذين كانوا يطوفون في هذه الأنحاء للاتجار، ولم يعتنِ إلا بأحوال السواحل. أما الأقسام الداخلية من جزيرة العرب، فيظهر أنه لم يكن ملمًا بها إلمامًا كافيًا.
وقد ذهب “إلبرايت” إلى أن الكتاب المذكور قد ألف في حوالي السنة “80” بعد الميلاد . وذهب آخرون إلى أن مؤلفه قد ألفه في حوالي السنة “225” أو “210” بعد الميلاد ,وهناك طائفة من الكتاب الذين تركوا لنا آثارًا وردت فيها إشارات إلى العرب والبلاد العربية، مثل “أبولودورس” “apollodorus” “المتوفى سنة 140 بعد المسيح”. و “بطلميوس” “claudius ptolemaes” الذي عاش في الإسكندرية في القرن الثاني للمسيح. وهو صاحب مؤلفات في الرياضيات منها “كتاب المجسطي” المعروف في اللغة العربية. وله كتاب مهم في الجفرافية سمّاه “geographike hyphegesisi” ويعرف باسم “جغرافية بطلميوس” , ولهذا الكتاب شهرة واسعة، وقد درَّس في أكثر من مدارس العالم إلى ما بعد انتهاء القرون الوسطى. جمع فيه بطلميوس ما عرفه العلماء اليونان وما سمعه هو بنفسه وما شاهده هو بعينه، وقسم الأقاليم بحسب درجات الطول والعرض. وقد تكلم في كتابه على مدن البلاد العربية وقبائلها وأحوالها، وزيّن الكتاب بالخارطات التي تصور وجهة نظر العلم إلى العالم في ذلك العهد ويرى بعض الباحثين أن ما ذكره “بطلميوس” عن حضرموت يشير إلى أن المنبع الذي أخذ منه كان يعلم شيئًا عنها، وأنه كان قد أقام مدة في “شبوة” العاصمة. ويرون أن ذلك المنبع قد يكون تاجرًا روميًّا، أو أحد المبعوثين الرومان في تلك المدينة؛ لأن وصف “بطلميوس” للأودية، والأماكن الحضرمية يشير إلى وجود معرفة بالأماكن عند صاحبه. أما ما ذكره “بطلميوس” عن أرض “سبأ” والسبئيين؛ فإنه لا يدل، على حد قول المذكورين على علم بالأماكن، وإجادة لأسمائها، وأن الذي أخذ منه “بطلميوس” لم يكن قد شاهدها .
ومن الذين أوردوا شيئًا عن أحوال بلاد العرب “أريان” “arrian” “flavius arrianus” “95- 175م”، وقد ألف كتبًا عديدة. منهاكتابه “anabasis Alexander the great” في خمسة عشر قسمًا، وصف في سبعة منها حملات الإسكندر الكبير، وفي الثمانية الأخرى وصف الهند وأحوال الهنود ورحلة القائد “nearchus” “نيرخس” “أميرال الإسكندر في الخليج العرابي, ومنهم “هيروديان” “herodianus” “165- 250 ب. م”، وهو مؤرخ سرياني ألف في اليونانية كتابًا في تأريخ قياصرة الروم من وفاة القيصر “ماركوس أوربليوس” إلى سنة 238م .
الموارد النصرانية:
وللمواد النصرانية أهمية كييرة في تدوين تأريخ انتشار النصرانية في بلاد العرب وتاريخ القبائل العربية، وعلاقات العرب باليونان والفرس، وقد كُتب أغلبها باليونانية والسريانية. ولها في نظري قيمة تأريخية مهمة؛ لأنها عند عرضها للحوادث تربطها بتأريخ ثابت معين، مثل المجامع الكنيسية، أو تواريخ القديسين، والحروب وأوقاتها في الغالب مضبوطة مثبتة,ومن أشهر هذه الموارد مؤلفات المؤرخ الشهير” أوبسبيوس” المعروف بـ”أوبسبيوس القيصري” “eusebius of caesarea” “263- 340م” “265- 340″ وبـ”أبي التأريخ الكنائسي” father of ecclesiastical history” وبـ “هيرودتس النصاري”1. وكان على اتصال بكبار رجال الحكومة وبرؤساء الكنيسة؛ فاستطاع بذلك أن يقف على كثيرمن أسرار الدولة وأن يراجع المخطوطات والوثائق الثمينة التي كانت تحويها خزائن الحكومة وخزائن كتب الرؤساء والأغنياء.
وكان قد ألّف كتابًا في التاريخ باللغة اليوناينة، عرف بـ” the chronicon“، حوى بالإضافة إلى التاريخ العام تقاويم وجداول بالحوادث التي حدثت في أيامه,وقد أفاد هذا الكتاب فائدة كبيرة في معرفة تاريخ اليونان والرومان حتى سنة 325م، ولم يبقَ من أصله غير قطع صغيرة؛ غير أن له ترجمة باللاتينية عملها “جيروم” “Jerome” وأخرى باللغة الأرمنية، وقد سدّ “جوزيف سكالكر” “joseph scaliger” النقص الذي طرأ على النسخة الأصلية، باستفادته من هاتين الترجمتين,ولهذا الأسقف كتب مهمة أخرى، في مقدمتها كتاب “التاريخ الكنائسي” “ecclesiastical history” وهو في عشر كتب، يبدأ بأيام المسيح، وينتهي بوفاة الإمبراطور “licinius” سنة 324م. وقد استقى كتابه هذا من مصادر قديمة، وأورد فيه أمورًا انفرد بها . ومن مؤلفاته: كتاب “شهداء فلسطين” “the martyrs of palastine” تحدث فيه عن تعذيبهم واستشهادهم في أيام “Diocletian” و “maximin” “303- 310م” وكتاب “سيرة قسطنطين” “the life of Constantine“، وكتاب في فلسفة اليونان وديانتهم .
ومن مؤرخي الكنيسة: “athanasius” “حوالي 296- 371″و “gelastius” “حوالي 320- 394م” أسقف قيصرية، وله تتمة لتاريخ “eusebius“. و”روفينوس تيرانيوس” “rufinus tyranius” المتوفى سنة 410م، وصاحب كتاب “historiae ecclesiaticae” وقد ضمّنه أقسامًا من تاريخ “أوبسبيوس” و “إيرينوس” “irenaeus” “444م”، وكان أسقفًا على “صور” “tyre“، وقد كتب مؤلفًا عن مجمع “أفسوس” للنظر في النزاع مع النساطرة، وكان يميل إليهم. والمؤرخ “سقراط” “socrates“، وهو من الفقهاء في الكنيسة، وقد اعتمد في تواريخه على من كتب قبله من المؤرخين، وقد وردت في ثناياها أخبار عن بلاد العرب, والمؤرخ “سوزومينوس” “sozomenus” “400- 443“، وله كتاب في التأريخ الكنائسي, و “ثيودوريث” “theodoret” المتوفى حوالي سنة 457 للميلاد. و “زوسيموس” “zosimus“، وهو مؤرخ يوناني ألّف في تاريخ الإمبراطورية الرومانية -اليونانية؛ فأشار إلى العرب وعلاقاتهم بها. و “شمعون الأرشامسي” “simeon of beit arshamوهو صاحب “رسائل الشهداء الحميريين” التي تبحث في تعذيب ذي نواس للنصارى في نجران، وقد جمع أخبارهم “على ما يدعيه” من بلاط ملك الحيرة أيام أوفده إليه إمبراطور الروم في مهمة رسمية. و”بروكوبيوس” “procopius” من رجال القرن السادس للميلاد، وكان أمين سر القائد “بليزاريوس” “belisarius” أعظم قوّاد “يوسطنيانوس” ، وقد رافقه عدة سنين في بلاد فارس وشمال إفريقية وجزيرة صقلية. ومن مؤلفاته مؤلف في تأريخ زمانه؛ لا سيما حروب “يوسطنيانوس”، وكتاب “de bello persico” وقد وردت فيه أخبار ذات بال بالنسبة لبلاد العرب ,ومن هؤلاء “زكريا” “zacharias“، المتوفى حوالي سنة 568م7. ويوحنا”ملالا” “john malalas” المتوفى سنة 578م . و “ميننذر” “menandar” “protector” المتوفى حوالي سنة 582م . و”يوحنا الأفسي” john of ephesus” وقد ولد في حوالي سنة 505م، وتوفي سنة 585م تقريبًا، وله مؤلفات عديدة منها كتابه: “التأريخ الكنائسي” “ecclesiastica historia“، وهو في ثلاثة أقسام يبتدئ بأيام “يوليوس قيصر” وينتهي بسنة 585م , وكتاب “تأريخ القديسين الشرقيين”، وقد فرغ من تأليفه سنة 569م , ومن هؤلاء “إسطيفان البيزنطي” “stephanus byzantinus” المتوفى سنة 600م ,و”إيواكريوس” “evagrius” المعروف بـ “scholasticus” أي “المدرسي” المتوفى سنة 600م. وهو صاحب كتاب “التأريخ الكنائسي” “historiae ecclesiasticae” في ستة أقسام. يبتدئ بذكر “المجمع الأفسوسي” المنعقد عام 431م وينتهي بسنة 593.وهو من الكتب المهمة؛ لأن مؤلفه لم يكتب عن هوى شأن أكثر مؤرخي الكنيسة. وقد استعان بالنصوص الأصلية وبالكتب المؤلفة سابقًا .
ومن هؤلاء أيضًا “ثيوفليكت” “theophylactus simocatta” المتوفى سنة 640م7 و “ثيوفانس” “theophanes the confessor” المتوفى سنة 818م8. و”إيليا النصيبي”9 “dlijah “elis” of nisibis“، و”ميخائيل السوري”,وفي قائمة المخطوطات السريانية في المتحف البريطاني أسماء مخطوطات تاريخية ودينية أخرى ذات فائدة كبيرة في هذا الباب , وفي مجموعة الكتابات اليونانية واللاتينية, وفي المجموعات التي تبحث في أعمال القديسين وفي انتشار النصرانية، إشارات مهمة إلى بلاد العرب. وهناك كتاب نشره المستشرق “كارل مولر carl muller” لمؤلف مجهول اسمه “glaucus” يبحث في “آثار بلاد العرب” .
وهناك طائفة من المؤرخين النصارى من روم وسريان عاشوا في أيام الدولة الأموية والدولة العباسية، ألفوا في التاريخ العام وفي تواريخ النصرانية إلى أيامهم، فتحدثوا لذلك عن العرب في الجاهلية وفي الإسلام. ومؤلفات هؤلاء مفيدة من ناحية ورود معارف فيها لا ترد في المؤلفات الإسلامية عن الجاهلية والإسلام، تفيد في سد الثغر في التاريخ الجاهلي وفي الوقوف على النصرانية بين العرب وعلى صلات الروم والفرس بالعرب.
وأكثر الموارد المذكورة هي، ويا للأسف، مخطوطة، مخطوطة، ليس من المتيسر الاستفادة منها، أو مطبوعة ولكنها نادة؛ لأنها طبعت منذ عشرات من السنين فصارت نسخها محدودة معدودة لا توجد إلا في عدد قليل من المكتبات. ثم إنها في اليونانية أو اللاتينية أو السريانية، أي في لغاتها الأصلية، ولهذا صعب على من لا يتقن هذه اللغات الاستفادة منها، ولهذه الأمور ولأمثالها، لم يستفد منها الراغبون في البحث في التاريخ الجاهلي حتى المستشرقون منهم استفادة واسعة، فحرمنا الوقوف علىأمور كثيرة من أخبار الجاهلية كان في الإمكان الوقوف عليها لو تيسرت لنا هذه الكنوز.
الموارد العربية الإسلامية:
وأعني بها الموارد التي دوّنت في الإسلام وقد جمعت مادتها عن الجاهلية من الأفواه، خلا ما يتعلق منها بأخبار صلات الفرس بالعرب وبأخبار آل نصر وآل غسان وبأخبار اليمن المتأخرة، فقد أخذت من موارد مرتبة يظهر أنها كانت مكتوبة كما سأتحدث عن ذلك, والموارد المذكورة كثيرة، منها مصنفات في التاريخ، ومنها مصنفات في الأدب بنوعيه. من نثر ونظم، ومنها كتب في البلدان والرحلات والجغرافيا وفي موضوعات أخرى عديدة، هي وإن كانت في أمور لا تعد من صميم التاريخ، إلا أنها مورد من الموارد التي يجب الاستعانة بها في تدوين تاريخ الجاهلية؛ لأنها تتضمن مادة غزيرة تتعلق بتاريخ الجاهلية القريبة من الإسلام والمتصلة به، لا نجد لها ذكرًا في كتب التاريخ؛ فلا بد لمؤرخ الجاهلية من الأخذ منها لإتمام التاريخ.
الحق أننا أردنا البحث عن مورد يصور لنا أحوال الحياة الجاهلية، ويتحدث لنا عن تفكير أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، فلا بد لنا من الرجوع إلى القرآن الكريم ولا بد من تقديمه على سائر المراجع الإسلامية، وهو فوقها بالطبع. ولا أريد أن أدخله فيها؛ لأنه كتاب مقدس، لم ينزل كتابًا في التاريخ أو اللغة أو ما شاكل ذلك، ولكنه نزل كتابًا عربيًا، لغته هي اللغة العربية التي كان يتكلم بها أهل الحجاز، وقد خاطب قومًا نتحدث عنهم في هذا الكتاب؛ فوصف حالتهم وتفكيرهم وعقائدهم، ونصحهم وذكَّرهم بالأمم والشعوب العربية الخالية1، وطلب منهم ترك ما هم عليه، وتطرّق إلى ذكر تجاراتهم، وسياساتهم وغير ذلك. وقد مثّلهم أناس كانت لهم صلات بالعالم الخارجي، واطلاع على أحوال من كان حولهم. وفيه تفنيد لكثير من الآراء المغلوطة التي نجدها في المصادر العربية الإسلامية؛ فهو مرآة صافية للعصر الجاهلي، وهو كتاب صدق لا سبيل إلى الشك في صحة نصه, وفي القرآن الكريم ذكر لبعض أصنام أهل الحجاز، وذكر لجدلهم مع الرسول في الإسلام وفي الحياة وفي المثل الجاهلية. وفيه تعرّض لنواحٍ من الحياة الاقتصادية والسياسية عندهم، وذكر تجارتهم مع العالم الخارجي، ووقوفهم على تيارات السياسة العالمية، وانقسام الدول إلى معسكرين، وفيه أمور أخرى تخص الجاهلية وردت فيه على قدر ما كان لها من علاقة بمعارضة قريش للقرآن والإسلام. وفي كل ما وردت فيه دليل على أن صورة الأخباريين التي رسموها للجاهلية، لم تكن صورة صحيحة متقنة، وأن ما زعموه من عزلة جزيرة العرب، وجهل العرب وهمجيتهم في الجاهلية الجهلاء، كان زعمًا لا يؤيده القرآن الكريم الذي خالف كثيرًا مما ذهبوا إليه.
والتفسير، مصدر آخر من المصادر المساعدة لمعرفة تأريخ العرب قبل الإسلام. وفي كتب التفسير ثروة تأريخية قيمة تفيد المؤرخ في تدوين هذا التأريخ، تشرح ما جاء مقتضبًا في كتاب الله، وتبسط ما كان عالقًا بأذهان الناس عن الأيام التي سبقت الإسلام، وتحكي ما سمعوه وما وعوه عن القبائل العربية البائدة التي ورد لها ذكر مقتضب في السور، وما ورد عندهم من أحكام وآراء ومعتقدات,ولكن كتب التفاسير -ويا للأسف- غير مفهرسة ولا مطبوعة طبعًا حديثًا، وهي في أجزاء ضخمة عديدة في الغالب، ولهذا صعب على الباحثين الرجوع إليها لاستخراج ما يُحتاج إليه من مادة عن التأريخ الجاهلي، حتى إن المستشرقين المعروفين بصبرهم وبجلدهم وبعدم مبالاتهم بالتعب، لم يأخذوا من معينها إلا قليلًا، مع أن فيها مادة غنية عن نواحٍ كثيرة من أمور الجاهلية المتصلة بالإسلام.
وكتب الحديث وشروحها، هي أيضًا مورد غني من الموارد التي لا بد منها لتدوين أخبار الجاهلية المتصلة بالإسلام؛ إذ نجد فيها أمورًا تتحدث عن نواحٍ عديدة من أحوال الجاهلية لا نجدها في مورد آخر. فلا مندوحة من الرجوع إليها والأخذ منها في تدوين تأريخ الجاهلية، ولكن أكثر من بحث في التأريخ الجاهلي لم يغرف من هذا المنهل الغزير، بسبب عدم انتباههم لأهميته في تدوين تأريخ عرب الحجاز عند ظهور الإسلام؛ فعلينا نحن اليوم واجب الأخذ منه، لنزيد علمنا بتأريخ هذه الجاهلية المتصلة بالإسلام.
والشعر الجاهلي، مورد آخر من الموارد التي تساعدنا في الوقوف على تأريخ الجاهلية والاطلاع على أحوالها، وقديمًا قيل فيه إنه “ديوان العرب”. “عن عكرمة. قال: ما سمعت ابن عبّاس فسّر آية من كتاب الله؛ عز وجلّ، إلّا نزع فيها بيتًا من الشعر، وكان يقول: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله؛ فاطلبوه في الشعر؛ فإنه ديوان العرب، وبه حُفظت الأنساب، وعُرفت المآثر، ومنه تُعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله وغريب حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحديث صحابته والتابعين”, “وعن ابن سيربن قال: قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه” . وقال الجمحيّ فيه، أي في الشعر الجاهلي: “وكان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون “.
وقد جُمع الشعر الجاهلي في الإسلام، جمعه رواة حاذقون، تخصصوا برواية شعر العرب. قال “محمد بن سلام الجمحي”: “وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، حمّاد الرواية، وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار”, واشتهر بجمعه أيضًا “أبو عمرو بن العلاء” المتوفى سنة “154” للهجرة5، وخلف بن حيّان أبو محرز الأحمر6، وأبو عبيدة، والأصمعي، والمفضَّل بن محمد الضبي الكوفي صاحب المفضليات، وهي ثمان وعشرون قصيدة، قد تزيد وقد تنقص وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية .
وأبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني المتوفى سنة 206 للهجرة1، قيل: إنه جمع أشعار العرب؛ فكانت نيفا وثمانين قبيلة2. وأبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، المتوفى سنة 231 للهجرة3، وأبو محمد جنّاد بن واصل الكوفي4، وخلّاد بن يزيد الباهلي5، وغيرهم ممن تفرغوا له، وصرفوا جلّ وقتهم في جمعه وحفظه وروايته,”قال ابن عوف عن ابن سيرين. قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه؛ فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد، وغزوا فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يألوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، فألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم أكثره”6. وورد عن “أبي عمرو بن العلاء” أنه قال: “ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم علم وشعر كثير”7. ولا جدال بين العلماء حتى اليوم في موضوع ذهاب أكثر الشعر الجاهلي، وفي أن الباقي الذي وصل إلينا مدونًا في الكتب، هو قليل من كثير. وقد عللوا سبب اندثار أكثره وذهابه بسبب عدم تدوين الجاهليين له، واكتفائهم بروايته حفظًا، فضاع بتقادم الزمان، وبموت الرواة، وبانطماس أثره من الذاكرة، وبانشغال الناس بأمور أخرى عن روايته؛ ولا سيما رواية القديم منه الذي لم يعد يؤثر في العواطف تأثير الجديد منه الذي قيل قبيل الإسلام.
نعم جاء في الأخبار أنه “قد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته؛ فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه”, وورد عن “حماد الرواية” أنه ذكر أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطّنوح، وهي الكراريس؛ فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض. فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار .
ووردت عنه أيضًا حكاية أهل مكة للمعلقات على الكعبة, ووردت أخبار أخرى تدل على وجود تدوين للشعر عند الجاهليين؛ إلا أننا لا نجد حمادًا ولا غير حماد ينص على أنه نقل ما دوّنه من تلك الموارد المدونة أو من غيرها مما وجده مدوّنًا. وهذا ما حدا بالعلماء قديمًا وحديثًا إلى البحث في هذا الموضوع: موضوع الشعر الجاهلي من ناحية وجود تدوين له، أو عدم وجود تدوين له. وأثر ذلك على درجة ذلك الشعر من حيث الصحة والأصالة والصفاء والنقاء ,وفي الشعر الجاهلي الواصل إلينا، شعر صحيح وشعر موضوع منحول حمل على الشعراء. وقد شخص أهل الفراسة بالشعر الصحيح منه ونصوا على أكثر الفاسد منه. ولم يقل أحد منهم أن الشعر الجاهلي موضوع كله فاسد لا أصل له. فدعوى مثل هذه، هي دعوى كبيرة لا يمكن أن يقولها أحد؛ إنما اختلفوا في درجة نسبة الصحيح إلى الفاسد، أو نسبة الفاسد إلى الصحيح.”وكان ممن هجّن الشعر وأفسده وحمل كل غُثاء، محمد بن إسحاق مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. وكان من علماء الناس بالسير فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها، ويقول لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله، ولم يكن ذلك له عذرًا؛ فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قطّ، وأشعار النساء فضلًا عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود أفلا يرجع إلى نفسه: فيقول من حمل هذا الشعر، ومن أداه منذ ألوف من السنين، والله يقول: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} وقال في عاد: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} .
وآتهم “حمّاد الرواية” بالكذب وبوضع الشعر على ألسنة الشعراء، فقيل فيه:”وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار”, وقال “أبو جعفر النحاس” المتوفى سنة 328 للهجرة في أمر “المعلقات”: “إن حمّادًا هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة” ، واتهم غيره ممن ذكرت من جهابذة حفظة الشعر الجاهلي بالوضع كذلك. وقد نصوا في كثير من الأحايين على ما وضعوه، وحملوه على الجاهليين. وذكروا أسباب ذلك بتفصيل ، كالذي فعله مصطفى صادق الرافعي في “تأريخ آداب العرب” .
وبعد هذه الكلمة القصيرة في الشعر الجاهلي أقول: إن إليه يعود فضل بقاء كثير من الأخبار المتعلقة بالجاهلية، فلولاه لم نعرف من أمرها شيئًا. ولست مبالغًا إذا قلت إن كثيرا من الأخبار قد ماتت لموت الشعر الذي قيل في مناسباتها، وإن أخبارًا خلقت خلقًا؛ لأن واضع الشعر أو راويه اضطر إلى ذكر المناسبة التي قيل فيها، فعمد إلى الخلق والوضع. وهو من ثم صار سببًا في تخليد الأخبار6، لسهولة حفظه، ولاضطرار راويه إلى قص المناسبة التي قيل فيها.
وما قلته في أهمية الشعر الجاهلي بالقياس إلى عمل مؤرخ الجاهلية، ينطبق أيضًا على أهمية شعر الشعراء المخضرمين بالقياس إلى عمل هذا المؤرخ؛ فقد أسهم أكثر الشعراء المخضرمين في أحداث وقعت في الجاهلية، وكان منهم من جالس “آل نصر” و “آل غسان”، وبقية سادات العرب، فورد في شعرهم أخبارهم وأحوالهم وطباعهم وغير ذلك. كما نجد في شعرهم مادة عن الحياة العقلية والمادية في أيامهم. ثم إن حياتهم اتصلت بالإسلام؛ فلم يكن شعرهم وما قالوه ورووه بعيد عهد عن أهل الأخبار ورواة الشعر، وهو من ثم أقرب إلى المنطق والواقع من شعر الجاهليين لبعدهم عن الرواة بعض البعد.
ولم ينج هذا الشعر أيضًا من الوضع؛ فحمل على بعض الشعراء مثل “حسان ابن ثابت” بعض الشعر لأغراض، منها العصبية القبيلة، كما سأتحدث عن ذلك بعد. وفي الجملة إن المؤرخ الحاذق الناقد لن تفوته هذه الملاحظة حين رجوعه إلى هذا الشعر إلى ما ورد على ألسنة الشرّاح.
وتعرضت كتب السِيَر والمغازي لأخبار الجاهلية بقدر ما كان للجاهلية من صلة بتاريخ الرسول، كما تعرضت لها كتب الأدب وكتب الأنساب والمثالب والبيوتات ومجامع الأمثال والكتب التي ألّفت في أخبار المعمرين، وفي الأيام، وفي البلدان، وفي المعجمات والجغرافية والسياحات وغير ذلك، فورد في ثناياها أخبار قيّمة عن هذه الجاهلية المتصلة بالإسلام. وهي موارد عظيمة الأهمية لمؤرخ هذه الحقبة، كثيرة العدد، هيأها عدد كبير من العلماء لا يمكن استقصاؤهم في هذه المقدمة، ولا التحدث عن مؤلفاتهم، وهو حديث يحتاج إلى فصول.
على أنّا يجب أن نأخذ بعض هذه الموارد المذكورة بحذر جدّ شديد، ولا سيما كتب “الأخبار والمثالب والمناقب والمآثر والأنساب”، فإن مجال الوضع والصنعة بها واسع كبير، لما للعواطف القبيلية فيها من يد ودخل، وللحزبية والأغراض فيها من تأثير. وطالما نسمع أن فلانًا وضع كتابًا في مثالب القبيلة الفلانية أو في مدحها ترضية لرجال تلك القبيلة، أو لحصوله على مال منها. ومن هنا وجب الاحتراس كل الاحتراس من هذه الموارد، ووجوب نقد كل رواية فيها قبل الاعتماد عليها والأخذ بها كمورد صحيح دقيق.
وفي كتب الأدب ثروة تأريخية قيمة، مبثوثة في صفحاتها، لا نجد لها مثيلًا ولا مكانًا في كثير من الأحايين في كتب أهل التأريخ عن التأريخ الجاهلي، حتى إني لأستطيع أن أقول إن ما أورده رجال الأدب عنه هو أضعاف أضعاف مارواه المؤرخون عن ذلك التأريخ، وأن ما جاءت به كتب الأدب عن ملوك الحيرة وعن الغساسنة، وعن ملوك كندة وعن أخبار القبائل العربية، هو أكثر بكثير مما جاءت به كتب التأريخ، بل هو أحسن منها عرضًا وصفاءً، وأكثر منها دقة. ويدل عرضه بأسلوبه الأدبي المعروف على أنه مستمد من موارد عريبة خالصة، وقد أخذ من أفواه شهود عيان، شهدوا ما تحدثوا عنه. وقد أفادنا كثيرًا في تدوين تأريخ الجاهلية الملاصقة للإسلام، ولشأنه هذا أودّ أن ألفت أنظار من يريد تدوين تأريخ هذه الحقبة إليه، وأن يرعاه بالرعاية والعناية وبالنقد، وسيحصل عندئذ على رأي لا يستطيع العثور عليه في كتب أهل التأريخ.
وقد صارت كتب المؤرخين المسلمين لذلك ضعيفة جدًّا في باب تأريخ العرب قبل الإسلام، ومادتها عن الجاهلية هزيلة جدّ قليلة بالقياس إلى ما نجده في كتب التفسير والحديث والفقه والأدب وشروح دواوين الشعراء الجاهليين والمخضرمين والموارد الأخرى. والغريب أن تلك الكتب اكتفت في الغالب بإيراد جريدة لأسماء ملوك الحيرة أو الغساسنة أو كندة أو حمير، مع ذكر بعض ما وقع لهم في بعض الأحيان، على حين نجد كتب الأدب تتبسط في الحديث عنهم، وتتحدث عن حوادث وأمور لا نجد لها ذكرًا في كتب المؤرخين؛ بل نجد فيها أسماء ملوك لم تعرفها كتب التأريخ، مما صيرها في نظري أكثر فائدة وأعظم نفعًا لتأريخ الجاهلية من كتب المؤرخين.
المؤرخون المسلمون:
لا نتمكن من الاطمئنان إلى هذه الأخبار والروايات المدونة في الموارد الإسلامية عن الجاهلية؛ إلا إذا وقفنا بها إلى حدود القرن السادس للميلاد أو القرن الخامس على أكثر تقدير. أما ما روي على أنه فوق ذلك، فإننا لا نتمكن من الاطمئنان إليه؛ لأنه لم يرد به سند مدون، ولم يؤخذ من نصّ مكتوب، وإنما أخذ من أفواه الرجال، ولا يؤتمن على مثل هذا النوع من الرواية؛ لأننا حتى إذا سلمنا إن رواة تلك الأخبار كانوا منزهين عن الميول والعواطف، وأنهم كانوا صدوقين في كل ما رووا، وكانوا أصحاب ملكة حسنة ذات قدرة في النقد وفي التمييز بين الصحيح والفاسد؛ فإننا لا نتمكن من أن نسلم أن في استطاعة الذاكرة أن تحافظ على صفاء الرواية وأن تروي القصة وما فيها من كلام وحديث بالنص والحرف حقبة طويلة. لذا وجب علينا الحذر في الاعتماد على هذه الموارد وتمحيص هذا المدون الوارد، وإن تكاثر واشتهر وتواتر؛ فقد كان من عادة رواة الأخبار رواية الخبر الواحد دون الإشارة إلى منبعه، ويُتداول في الكتب، فيظهر وكأنه من النوع المتواتر في حين أنه من الأخبار الآحاد في الأصل.
ولا أدري كيف يمكن الاطمئنان إلى نصّ قصة طويلة فيها كلام وحوار أو قصيدة طويلة زعم أن التبع فلانًا نظمها، في حين أننا نعلم أن الذاكرة لا يمكن أن تحفظ نصًّا بالحرف الواحد إذا لم يكن مدوّنًا مكتوبا، ولهذا جوّز أهل الحديث رواية حديث الرسول بالمعنى، إذا تعذرت روايته بالنص. ولا أعتقد أن عناية العرب المسلمين بحديث رسول الله كانت أقل من عنايتهم برواية ما جرى مثلًا بين النعمان بن المنذر وبين كسرى من كلام، أو من رواية ذلك الكلام المنمق، والحديث الطويل العذب، الذي جرى بين وفد النعمان الذي اختاره من خيرة ألسنة القبائل المعروفة بالكلام، وبين كسرى المذكور .
ومن هذا القبيل نصوص المفاخرات والمنافرات، فإن مجال لعب العاطفة فيها واسع رحيب. وكذلك كل الأخبار والروايات النابعة عن الخصومات والمنافسات بين القبائل أو الأشخاص، فإن الوضع والافتعال فيها شائع كثير، ولا مجال للكلام عليه في هذا الموضع؛ لأنه يخرجنا من حدود التأريخ الجاهلي، إلى موضوع آخر، هو نقد الروايات والأخبار والرواة، وهو خارج عن هذا الموضوع.
لقد تحدث أهل الأخبار عن عاد وثمود وطسم وجديس وجُرْهُم وغيرهم من الأمم البائدة، وتكلموا على المباني “العادية” وعن جنّ سليمان وأسحلة سليمان، ورووا شعرًا ونثرًا نسبوه إلى الأمم المذكورة وإلى التبابعة، بل نسبوا شعرا إلى آدم، زعموا أنه قاله حين حزن على ولده وأسف على فقده، ونسبوا شعرًا إلى “إبليس”، قالوا إنه نظمه في الردّ على شعر “آدم” المذكور، وأنه أسمعه آدم” بصوته دون أن يراه, ورووا أشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل.
ولكن هل يمكن الاطمئنان إلى قصص كهذا يرجع أهل الأخبار زمانه إلى مئات من السنين قبل الإسلام، وإلى أكثر من ذلك، ونحن نعلم، بتجاربنا معهم، أن ذاكرتهم اختلفت في أمور وقعت قبيل الإسلام، واضطربت في تذكر حوادث حدثت في السنين الأولى من الإسلام. كيف يمكننا الاطمئنان إلى ما ذكروه عن التبابعة وعن أناس زعموا أنهم عاشوا دهرًا طويلًا قبل الإسلام، ونحن نعلم من كتابات المسند ومن المؤلفات اليونانية والسريانية، أنهم لم يكونوا على ما ذكروه عنهم، وأنهم عاشوا في أيام لم تبعد بعدًا كبيرًا عن الإسلام، وأنهم كانوا يكتبون بالمسند وبلسان يختلف عن هذا اللسان الذي نزل به القرآن. ثم خذ ما ذكروه عن حملة “أبرهة” على مكة وعن أبرهة نفسه، وعن “أبي رغال”، وعن حادث نجران وذي نواس، وعن خراب سدّ مأرب، وعن أمثال ذلك من حوادث وأشخاص سيرد الكلام عليها في أجزاء هذا الكتاب، تجد أن ما ذكروه عنها وعنهم يتحدث بجلاء وبكل وضوح عن جهل بالواقع وعن عدم فهم لما وقع، وعن عدم إدارك للزمان والمكان، وعن عدم معرفة بالأشخاص. فرفعوا تواريخ بعض تلك الحوادث إلى مئات من السنين، وخلطوا في بعض منها، وفي كل ذلك دلالة على أن ما حفظته الذاكرة، لم يكن نقيًا خالصًا من الشوائب، وأن الذاكرة لا يمكن أن تحافظ على ما تحفظه أمدًا طويلًا وأن آفات النسيان وتلاعب الزمان بالحفظ لا بد أن يغيّر من طبائع المحفوظ.
والأخباريون إذا رووا ذلك ودوّنوه، لم يكونوا أول من وضع وصنع وافتعل وجاء بالقصص والأساطير على أنها باب من أبواب التأريخ؛ فقد فعل فعلهم اليونان والرومان والعبرانيون وسائر الشعوب الآخرى، يوم أرادوا تدوين تواريخ العصور التي سبقت عندهم عصور الكتابة والتدوين؛ إذ لم يجدوا أمامهم غير هذا النوع من الروايات الشفوية البدائية التي عبث بصفائها الزمان كلما طال أجلها إلى زمن التدوين، فدوّنوه ورووه، إلى أن وصل إلينا على النحو المكتوب.
وللسبب المذكور نرى في الأخبار الواردة عن ملوك الحيرة، أو عن صلات الفرس بالعرب أخبارًا قريبة إلى منطق التاريخ وإلى الواقع يمكن أن نأخذ بها وأننستعين بها في تدوين تاريخ الحيرة وتاريخ الساسانيين مع العرب. ويعود سبب ذلك إلى رجوع الرواة إلى موارد مدونة، أو إلى شهود عيان أدركوا أنفسهم الحوادث، وكلها من الحوادث القريبة من الإسلام والتي وقع بعضها في أيام الرسول. أما حوادث آل نصر، أو أخبار الفرس مع العرب البعيدة؛ فلا نجد فيها هذا الصفاء والنقاء، بل نجد فيها قترة وغبرة، لنقلها بالسماع والمشافهة وتقادم العهد على السماع. وهكذا صار تاريخ الحيرة المروي في التواريخ غيومًا تتخلّلها فجوات متبعثرة تنبعث منها أشعة الشمس.
نعم جاء أن أهل الحيرة كانوا يعنون بتدوين أخبارهم وأنساب ملوكهم وأعمار من ملك منهم، وكانوا يضعون ذلك في بيع الحيرة, وورد أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطّنوح، وهي الكراريس، فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض؛ فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار, وذكر ابن سلام الجُمَحِي أنه “كان عند النعمان بن المنذر ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته؛ فصار ذلك إلى بني مروان، أو ما صار منه” .
ولكنني على الرغم من ورود هذ الأخبار لا أستطيع أن أقف منها الآن موقفًا إيجابيًّا؛ إذ لم أسمع أن أحدًا من رواة الشعر ذكر أنه رجع إلى تلك الطّنوج والدواوين فأخذ منهما، أو أن بني مروان عرضوها على أحد. ولو كانت تلك الدواوين موجودة، لم يسكت عنها رواة الشعر الجاهلي وطلابه الذين كانوا يبحثون عنه في كل مكان. ثم إن الأخباريين يذكرون أن “الوليد بن يزيد بن عبد الملك”، كان يرسل إلى “حمّاد” رسلًا ليأتوا إليه بما يريد الوقوف عليه من الشعر الجاهلي، وأنه “جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك وردّ الديوان إلى حمّاد وجناد”4، وأنه أحضر5 إلى الشام، واستنشده أشعار “بَلِيّ” وأشعارًا أخرى، ولو كان لدى “بني مروان” ديوان “النعمان بن المنذر” الذي جمع فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، لما احتاج “الوليد” إلى أن يسأل حمادًا وجنادًا ليرسلا إليه ديوان العرب، وهو ديوان لا ندري اليوم من أمره شيئًا، ولم يذكر “ابن النديم” صاحب الخبر، ما علاقة الرجلين المذكورين بذلك الديوان. هل كانا اشتركا معًا في جمعه، أو أن كل واحد منهما قد جمع بنفسه الأشعار في ديوان؛ فأرسل الوليد إليهما يطلب منهما ما جمعاه، ليجمعه مع ما عنده في ديوان.
ثم إننا لم نسمع أحدًا يقول:”كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر ابن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم، لآل كسرى، وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها”1؛ غير الرواية “هشام بن محمد الكلبي”. فَلِمَ وقف “ابن الكلبي” وحده على تلك الكنوز، ولم يلجأ غيره إلى بيع الحيرة، ليأخذ منها أخبار نصر؟ ألم يعلم بوجودها أحد غيره؟ ثم لِمَ اختلفت روايات “ابن الكلبي” وتناقضت في أمور من تأريخ الحيرة، ما كان من الواجب وقوع اختلاف فيها، ولِمَ لجأ أيضًا إلى رواية القصص والأساطير عن منشأ “الحيرة”، وعن “عمرو بن عدي”، وعن جذيمة، وعن “قصر الحورنق” وعن غير ذلك، ليقصها على أنها تأريخ آل نصر, أيعد هذا دليلًا على أخذه من موارد قديمة مكتوبة مدوّنة؟ نعم، من الجائز أن يكون قد أخذ من صحف كانت قد دوّنت أسماء آل نصر المتأخرين، وبعض الأخبار المتعلقة بهم، أما نه أخذ أخبارهم كاملة مدونة من كتاب أو من كتب تأريخ بالمعنى المفهوم من الكتاب؛ فذلك ما أشك فيه، لأن الذي ينقل أخباره من كتاب في التأريخ لا يروي تاريخ تلك الأسرة وتاريخ عربها على الشكل الذي رواه.