مستويات الأداء اللغوي والمعجم العربي
بحث مستل لطالب الدكتوراه
م.م علي خلف حسين العبيدي
بإشراف الأستاذ الدكتور
عبدالرحمن مطلك الجبوري
الملخص
يهدف هذا البحث إلى بيان حقيقة ما تعارف عليه لدى الدارسين بـ( مصادر الاحتجاج اللغوي) واصطلحت على تسميتها ( مستويات الأداء اللغوي ) وقد بيّنت ما يكتنفها من لبس وما اعتورها من ملحوظات بثثتها في تضاعيف البحث .
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة على خير من نطق بالضاد النبي العربي الأكرم محمد ( صلِّ اللهم عليه وسلم تسليما ) وعلى آله الأئمة الأطهار ، وصحبه الأبرار .
أما بعد
هذا البحث غايته أظهار مدى تعامل المدونة المعجمية العربية مع ما يعرف بـ( مصادر الاحتجاج اللغوي ) التي ارتأيت أن اسميها ( مستويات الأداء اللغوي ) لأنها في الحقيقة تمثل أنماطا كلامية استعمالية ذات أبعاد مختلفة منها القرآن الكريم الذي نرى وضعه أولا في خارطة الاحتجاج اللغوي بكل احتمالاته الأدائية الواردة ( يعني بكل قراءاته ) ، والحديث النبوي الشريف الذي وقف منه النحاة وأهل اللغة موقفا متشجنا ولم يروا الاحتجاج به في متن اللغة الا بمحددات اثبت البحث عدم صحتها وضعفها ، وعدم قيمتها فرأى أن يكون ثاني مستوى من مستويات الأداء اللغوي ، ومن ثَمَّ الشعر العربي كونه موضع اضطرار ، ويأتي بعده النثر العربي ذلك إن لم نقدمه على الشعر أصلا أو نلحقه بالمستوى الثاني لكي نعيد ترتيب خارطة المستويات الأدائية الكلامية على هذا النحو مستبعدين الترتيب الذي شاع في المدونة اللغوية العربية القديمة .
وقد رأيت أن أقسم البحث على خمسة مباحث ، وسمتُ الأول بـ( مستوى الأداء اللغويّ القرآني ) ، ووسمت المبحث الثانيّ بـ( مستوى الأداء اللغويّ الحديثيّ ) ، ووسمت المبحث الثالث (مستوى الأداء اللغوي الشعريّ ) ، ووسمت المبحث الرابع بـ(دوافع الإعراض عن الاحتجاج ببعض مستويات الأداء اللغوي الشعري ) ، ووسمت المبحث الخامس بـ(مستوى الأداء اللغوي النثري ) ، وقد ذيلتُ البحث بخاتمةٍ عرضتُ بها أهم النتائج التي خلُص البحث إليها على نحو موجز ، وفي المختتم نسأل الله التوفيق والفلاح.
المبحث الأول
مستوى الأداء اللغوي القرآني
جرت العادة في الدراسات اللغوية قديما وحديثا استعمال مصطلح ( مصادر الاحتجاج اللغوي ) إلا أن البحث وتأسيسا على وجهة نظر لسانية حديثة يرى أن يسميها ( مستويات الأداء اللغوي )؛ لأنه يجد أن هذه التسمية أدق تعبيرا عما نحن بصدد معالجته ، والحديث عنه ؛ ولأن تلك التي سميت ( مصادر) ما هي إلا مستويات من الأداء الكلامي ، يختلف كل منها عن الآخر تبعا لاختلاف سماته ، وخصائصه .
يقول السيوطي محددا مستويات الداء اللغوي التي يحتج بها في العربية على نحو يستقيم معه تصنيفه لها بتقديم القرآن الكريم بوصفه نسقا كلاميا ذا خصوصية ينبغي التعامل معه على أساسها : (( ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته ، فشمل كلام الله تعالى ، وهو القرآن الكريم ، وكلام نبيه (u) ، وكلام العرب قبل بعثته ، وفي زمنه ، وبعده …))(1)، إذن السيوطي يحدد ثلاثة مستويات كلامية هي عماد الاحتجاج اللغوي ومادته الأساسية :
1. القرآن الكريم / وما يتعلق بقراءاته ، كلام الله الأزلي القديم الأبدي .
2. كلام النبي (u) ، يعني الحديث النبوي الشريف .
3. كلام العرب إجمالا ، منظومه ومنثوره .
إن لكل مستوى من هذه المستويات خصائصه وسماته التي ينفرد بها عن غيره ، إلا أن هذا الانفراد لا يحكم عليه بالتقاطع والمناقضة ، مع عد التعامل مع القرآن الكريم بوصفه مستوى كلاميا خاصا ينبغي أن يكون بدقة وعمق ؛ لأنه يرتبط بأمور عقدية في حياة البشرية مع ما فيه من انساق كلامية ، وأنماط تعبيرية معجزة وخاصة وسمت بالطابع الإعجازي ، نظما ومعرفة ؛ لذا فالتعامل معه على وفق وصفه مستوى من مستويات الأداء اللغوي العربي ينبغي أن يتسم بالحذر والدقة والعمق ؛ لأن حدوث أي إشكال لغوي في قراءة انساق الخطاب فيه يولد ما لا يحصى من الإشكالات العقدية والفقهية فضلا عن أن القرآن لا يقتصر على تلك الأمور العقدية والشؤون الفقهية(2) .
ولسنا هنا بشأن الحديث عن أنماط المستويات الأدائية المتنوعة في القرآن الكريم ، إنما قصدت الإشارة إلى أن القرآن الكريم (( هو النص الصحيح المجمع على الاحتجاج به في اللغة والنحو والصرف وعلوم البلاغة ، وقراءاته كلها الواصلة إلينا بالسند الصحيح حجة لا ترتقي إليها حجة ))(3)، على أن القراء والمشتغلين بهذا الحقل أحسنوا التعامل مع القرآن في هدي هذا التوصيف أكثر من النحاة ، وأهل اللغة ، والدليل على ذلك وعلى رد من يعترض على هذه النقطة هو أن النقد يجد عند النحاة وقواعد نحوهم ثغرات عديدة في الصميم ، فهم يريدون بناء قواعدهم على كلام العرب ، فيجمعون نتفا شعرية ونثرية من هذه القبيلة ، أو تلك ، ويضعون قواعدهم لتصدق على أكثر ما وصل إليهم بهذا الاستقراء الذي لم يستند إلى خطة محكمة في الجمع ، ثم يعضدون هذه القواعد بمقاييس منطقية يريدون اطرادها في الكلام ، حتى إذا أتتهم قراءةٌ صحيحةُ السندِ غير أنها تخالف بعض أقيستهم المنطقية طعنوا بها ، وإن كان قارؤها أفصح وأبلغ وأعرب من كثير ممن يحتج النحوي ، أو اللغوي بكلامهم (4) .
وقد اعترى موقف النحاة واللغويين من القرآن الكريم كثير من التناقض والمغايرة ؛ إذ على الرغم من اعترافهم بأن القرآن أوثقُ نصٍ ، وسيدُ الحجج كلها ، لكنهم حادوا عنه ، فكان من المفروض أن يبحث عن أصل القاعدة اللغوية ، أو الحكم النحوي في القرآن الكريم ، فإن لم يوجد ففي الحديث النبوي الشريف (5) إلا أن واقع تعامل النحاة واللغويين مع القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف غير ذلك ، إذ هم يقدمون مستوى الأداء اللغوي الشعري على القرآن الكريم أحيانا ، بل تعدى الأمر ذلك ليتقدم الشعر على ما وُصِفَ به بأنه موضع اضطرار ، قال ابن جني : (( الشعر موضع اضطرار ، وموقف اعتذار ، وكثيرا ما يحرف فيه الكلم عن أبنيته وتحال فيه المثل عن أوضاع صيغها ؛ لأجله ))(6).
إن للبحث هنا جملة ملاحظات على نهج القدامى من نحاة ، ولغويين في تعاملهم مع الاحتجاج بالقرآن الكريم ، وعلى النحو الآتي :
1. تحصّل لدى الدارسين أن القدامى حين قعدوا اللغة ، قد انصرفوا انصرافا شبه تام عن الاحتجاج بالقرآن الكريم ، حتى ضاق ابن حزم الأندلسي الظاهري ( 456هـ) ذرعا بذلك ، فقال (( والعجب ممن إن وجد لأعرابيّ جلف ، أو لامرئ القيس ، او الشماخ لفظا في الشعر ، او النثر جعله في اللغة ، واحتج به ، وقطع به على خصمه ، ولا يستشهد بكلام خالق اللغات ))(7) ، فالرجوع إلى كتب النحو القديمة التي فيها التطبيق العملي للشواهد يشير إلى أن دارسي اللغة قد صرفوا أنفسهم قصدا عن استقراء النص القرآني ؛لاستخلاص قواعدهم منه فكتاب سيبويه اعتمد الشعر العربي القديم في الاستقراء ، وتقرير الأصول بنسبة عالية جدا ، واغفل كثيرا من آي القرآن ، والشعر الإسلامي (8).
2. إن ذلك الانصراف قد يكون له ما يسوغه ، وإن كان التسويغ لا ينهض ، ولا يتواءم مع منطلق العلوم ، وأبرز ما يسوغ ذلك العدول عن الاحتجاج بلغة القرآن وجعله المصدر الأول من مستويات الأداء اللغوي هو التحرز الديني ؛ لأن (( طبيعة التفكير الذي فرض نفسه على دارسي اللغة يحمل بين طياته تعدد الآراء ، وإعمال الذهن في النص اللغوي ، كما هو واضح في كتب النحو واللغة ، بينما النص القرآني لا يحتمل ذلك ولا يطيقه …))(9) .
3. يرى البحث ضرورة تغيير خارطة الاحتجاج اللغوي ، إذ (( الذي يجب فعله هو جعل القرآن أساسا أصيلا لانتزاع الشواهد والمثل ، وهذا يعني أن تتغير خارطة الشواهد النحوية ، وتكون الشواهد القرآنية هي الأكثر ، ولن يتم هذا إلا باستعراض قواعد النحو كلها ، ثم عرضها على القرآن ، فما وافقه في أسلوبه ابقيناه ، وما خالفه التمسنا معالجته من الآثار الأدبية الرفيعة ، من شعر أو نثر ))(10) .
ولعل تعليل ما ذهب إليه البحث هنا هو أن من صفات القرآن الهيمنة كما في قوله تعالى ( ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ) (11) فكما تطبق مرجعية القرآن الكريم على سائر الأحكام العقدية ، والاجتهادية ، كذلك يجب أن تطبق تلك الهيمنة على القواعد النحوية بوصفها اجتهادية بشرية ، فيكون القرآن الكريم أول مستويات الأداء اللغوي المحتج بها التي تُبنى على أساسها قواعد اللغة ، والنحو (12) .
4. إن للقرآن الكريم قراءات ، وليس البحث هنا معنيا بما يتعلق بها ، ولأهل اللغة مواقف مختلفة ، ومتغايرة من تلك القراءات ، إلا أن الراجح في ذلك ما قرره السيوطي بقوله : (( أما القرآن فكل ما ورد أنه قرئ به جاز الاحتجاج به في العربية سواء كان متواترا أم أحادا أم شاذا ، وقد اطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة ، إذا لم تخالف قياسا معروفا ، بل لو خالفته يحتج بها ))(14) .
المبحث الثاني
مستوى الأداء اللغوي الحديثيّ
أما المستوى الأدائي اللغوي الثاني ، أو هكذا ينبغي أن يكون موقعه ، فالحديث النبوي الشريف الذي منع كثير من النحاة واللغويين الاحتجاج به ؛لأن (( ما يستدل به منه بما ثبت أنه (u) قاله على اللفظ المروي ، وذلك نادر جدا ، إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضا ، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى وقد تداولها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها ، ورووها بما أدت إليه عبارتهم ، فزادوا ، ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظا بألفاظ …))(15) وهذا النص الذي ساقه السيوطي في الاقتراح يوضح ذلك الموقف المتشدد والمتناقض جدا من الحديث النبوي الشريف ، مع أن البحث لا يخوض في ما أثير حول الحديث النبوي الشريف من جدل واسع لدى النحاة واللغويين ؛ لأن ثمة دراسات كثيرة تكفلت بهذا الأمر ، على نحو واسع جدا (16) ، إلا أنه يثبت جملة من الحقائق ، والملحوظات التي تثبت عكس ما قرروه بشأن الحديث النبوي الشريف ، في أثناء الوقوف على النص المذكور آنفا.
1. إن دعوى رواية الحديث بالمعنى باطلة في أصلها ؛ لما قدمته كثير من الدراسات من أدلة تنفي ذلك ، ولا تؤيده ؛ ولما أحاط عملية تدوين الأحاديث من دقة وعمق وسعة تحرٍ واستقصاء ربما لم يُحط علم من العلوم بمثلها .
2. قد كان موقف اللغويين من الاحتجاج بالحديث النبوي أكثر مرونة ، وأدق تعاطيا ، وأوسع أخذا ، حتى أن الخليل الفراهيدي ، احتج في العين ( 300 ) حديث ، أو أكثر (17) مما يؤكد صحة التوصيف الذي تبناه البحث لموقف اللغويين من الحديث النبوي الشريف .
3. إن الزيادة والنقصان والتقديم ، والتأخير ربما يبدو أمرا مستبعدا ؛ لما ورد من تحذير شديد اللهجة على لسان النبي (u) جعل فيه النار والجحيم مثوى من وضع عليه شيئا إذ قال : (( من كّذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ))(18) ، وقال : (( يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ))(19).
4. إن علماء الحديث كانوا على قدر عال من التقوى والصلاح والأمانة والتنزه عما يمكن أن يخل بعملهم ، وعلمهم مما اتهمهم به النحاة واللغويون ، فضلا عما اُخضِع له الحديث الشريف ، ورجاله من عملية تنقية شديدة جدا تمثلت في علم ( الجرح والتعديل ) الذي وضعت له ضوابطه الصارمة في قبول الحديث ، ومعرفة السند ، والراوي ، وغير ذلك من إجراءات عملية تكفل بها هذا العلم ، لصيانة الحديث النبوي الشريف ، وكيف لا يكون الحديث وأخذه على هذا النحو ، وهو المصدر الثاني من مصادر التشريع ، وكلام من لا ينطق عن الهوى؟!
5. إن الحديث القدسي لا يُروى بالمعنى البتة ، فكيف يكون تعامل النحاة ، وأهل اللغة معه ؟ أليس ما قالوه يوقع في تناقض محير؟
6. إن ما ذهب إليه النحاة وأهل اللغة في مسألة الاحتجاج بالأحاديث القصيرة كونها في زعمهم رويت باللفظ والمعنى (( إنما هو اجتهاد منهم ، يفتقر إلى دليل ، إذ بعض الأحاديث قد تكون ضعيفة ، وبالعكس ، فكان الأحرى بهم أن يعتمدوا على الأحاديث الصحيحة بغض النظر عن الطول والقصر )) (20) ، والاحتجاج بالحديث على هذا النحو هو مذهب الوسطية القائم على المنع والإجازة (21) ، مع أننا نذهب إلى الاحتجاج بالحديث النبوي مطلقا من غير تقييد .
7. إن المعجميين العرب كانوا أكثر إقبالا في مدوناتهم اللغوية عامة ، والمعجمية على نحو خاص على الحديث النبوي ، والاحتجاج به من غير أن يرهنوا ذلك الاحتجاج بشرط ، أو قيد .
8. قد يكون سبب انصراف النحاة ، وبعض اللغويين عن الاحتجاج بهذا المستوى الأدائي اللغوي المتمثل بالحديث النبوي الشريف راجعا (( إلى التحرز الديني ، إذ وقف الإحساس الشديد بتنزيه السنة مانعا لهم عن الاتجاه إلى نصوصها ، بالتحليل ، والدراسة ، واستنباط القواعد ، وسكتوا عن الخوض في ذلك من البداية ، وانتقل هذا التحرز والسكوت إلى من جاء بعدهم من النحاة واللغويين ))(22)، إلا أن الاعتماد على التحرز الديني، بوصفه مسوغا لانصراف النحاة ، واللغويين عن الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف، لا يعده البحث كافيا ، أو مقنعا ؛ لأن القرآن الكريم أقدس ، وأولى بالتنزيه لم يكن إزاءه مثل هذا الموقف الذي وقفه النحاة واللغويون من الحديث النبوي ؛ إذ أجازوا الاحتجاج بقراءاته الشاذة فضلا عن المتواترة مع أن حقيقة ما موجود في متون النحو واللغة لم تكن على ذلك النحو مع القرآن الكريم ؛ إذن يمكن أن تكون هناك أسباب أخرى غير التي ذكرها مانعو الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف ، وليس من مجانبة الصواب القول : إن من أهم أسبابهم الأسباب السياسية التي تمثلت بظهور الفرق الغالية في الفكر الإسلامي التي أخذت تأول الأحاديث والنصوص القرآنية لخدمة ما كانت تنادي به من أمور ومسائل وقضايا ، وجد أهل الدراية ضرورة الابتعاد عن الحديث ؛ لكي لا تسخره تلك الفرق في مجادلاتها العقدية والفكرية التي كانت تخالف ما عليه إجماع الأمة؛ لأن أغلب من نادى بتلك الفرق كانوا من الموالي ، والمستعربين ، وذوي الأغراض غير المنزه عن الباطل والزندقة ، إذ قد يكون هذا تفسيرا مقنعا يعضد التفسير الأول لانصراف أهل النحو ، واللغة عن الحديث النبوي .
9. قد يكون الأمر راجعا إلى أسباب علمية بحتة ، ترجع في مجملها إلى طريقة كلا الفريقين ـ أي : أهل البصرة والكوفة ـ في أخذ اللغة ، وتلقيها على وفق نظرة كل منهما إلى أصول اللغة من سماع وقياس وإجماع .
10. لا يمكن التسليم بفكرة رواية الحديث بالمعنى ؛ لأن كثيرا من الأحاديث النبوية وصلت إلينا بمحكم ألفاظها ، وبعض الأحاديث قد روي بالمعنى مع التحرز البالغ من التغيير المخل بمعناها(23) .
المبحث الثالث
مستوى الأداء اللغوي الشعريّ
أما المستوى الثالث من مستويات الأداء اللغوي المحتج بها ، فالشعر ، وقد أشرنا آنفا إلى خلاف العلماء فيه ، وفي المحتج به منه ، وفي قصره على زمن معين بدعوى فساد سلائق مستعملي اللغة وبيّنا عدم دقة ، بل بطلان ذلك التحديد الذي أقره الفارابي ( 339 هـ) في حصر القبائل التي أخذت عنها اللغة ؛ لأن الواقع يشير إلى خلاف ما ذهب إليه في عدم الأخذ عن قُضاعة مع أن سيبويه ( 180هـ) احتج بشعر تسعة شعراء منهم ، وعدم الأخذ عن ثقيف مع أنه احتج بأربعة شعراء منهم ، وعدم الأخذ عن حضري قط ، كما يقول الفارابي ، وقد احتج سيبويه بعدد كبير من شعراء مكة ، والمدينة ، والحيرة والبصرة والكوفة (24) .
وقد تبين للبحث عدم صحة الاستدلال بنص الفارابي على منهج علماء العربية القدامى في تدوينهم اللغة ، وتقعيدهم لها ؛ لأن مثل موقف الفارابي على منهج علماء العربية هذا لم يكن إلا محض انطباعات قد يكون وراءها بعض المؤثرات الذوقية والقومية والجدلية (25) .
إن تقسيم الشعراء وشعرهم على طبقات إنما هو فكرة نقدية خضعت لاعتبارات فنية بحتة وليست فكرة لغوية محضة ، ثم إن هذا التقسيم لم يسلم هو الآخر من الاختلاف فيه منهجا وفكرا لتباين الأذواق واختلاف وجهات النظر فيه أي التراث النقدي المتعلق بالشعر خاصة .
إن اعتماد الشعر ، بوصفه مستوى أدائيا لغويا في وضع القواعد النحوية واللغوية وتقديمه على سائر المستويات اللغوية الأخرى من قرآن وحديث ، إنما كان لما يتمتع به من خصوصية في مواقفه وتعبيراته ؛ إذ هو أقرب إلى مراد العلماء ، فضلا عن أن محفوظ القبائل من تراثها اللغوي كان من الشعر ، لا من النثر ، حتى أدى ذلك إلى أن يفرض الشعر نفسه على دراستهم ويطبعها به (26) .
ثم إن فكرة التقسيم الطبقي للشعراء التي أشار إليها البحث آنفا ، وتأسيس عملية التدوين اللغوي على هذا الأساس فكرة غير واضحة وغير دقيقة يعوزها كثير من المنهجية والنظر الموضوعي المنصف ، وهم على تقسيمهم إياها على أربع طبقات ( جاهليين ، ومخضرمين ، وإسلاميين ، ومولدين ) لم يتفقوا على صحة هذا التقسيم ، فزادوا طبقتين على هذه الأربع لتصبح ستا(27) ، إلا أن هذا التقسيم على ما فيه من عِلات لم يُرضِ بعض العلماء كابن قتيبة ( 276 هـ) الذي قال : (( كل من أتى بحَسَنٍ من قولٍ ، أو فعل ، ذكرناه له ، وأثنينا به عليه ، ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله ، ولا حداثة سنه ، كما أن الردي إذا ورد علينا للمتقدم ، أو الشريف ، لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ، وتقدمه))(28) وابن قتيبة هو من هو في النقد ، واللغة فلا يكون هذا الرأي صادرا عنه اعتباطا ، أو من غير قناعات راسخة انطلق منها ، فضلا عن كون هذا الموقف من المواقف الجريئة في المدونة النقدية ، واللغوية العربية القديمة .
لقد أفضى هذا التقسيم المتعصب إلى أن ينال الشك من شعراء كانوا ضمن ما سُمّي بـ( عصور الاحتجاج ) ، وتتهم ثقتهم اللغوية ، كعدي بن زيد العبادي ( 36 ق.هـ) ، وأمية بن أبي الصلت ( 5 ق. هـ) ، وعبيد الله بن قيس الرقيات ( 85 هـ) ، والطرماح بن حكيم ( 125 هـ) ، والكميت بن زيد الأسدي ( 126 هـ) ، ونصر بن سيار ( 131 هـ) ، وغيرهم مما لا يدع مجالا للشك في عدم دقة ذلك التقسيم على كثرة من نادى به من القدامى ، وأقره ؛ لأنه بجملته خاضع لأسباب اجتماعية وسياسية إلى حد ما (29) .
لقد وصل الشعر إلينا عن طريق الرواية التي صارت مهنة يمتهنها كثير من الرواة الأعراب ، الذين صدرت بحقهم مقولات للغويين كبار كأبي الخطاب ( شيخ سيبويه ) ، والجاحظ ( 255 هـ) لا ترى فيهم تلك الصورة المثالية في دقة النقل وأمانته ، قال أبو الخطاب (( إن عامة أهل البدو لا تفهم ما يريد الشاعر ، ولا يحسنون التفسير ))(30) ، وقال الجاحظ : (( وليس الأعراب بقدوة إلا في الجر ، والنصب والرفع وفي الأسماء ، وأما غير ذلك فقد يخطئ ، ويصيب ))(31) ، وليس في نيتنا الحديث عن قضية الشك ، والانتحال في الشعر ، وإن كانت مهمة ، لأن جل قواعد النحو واللغة وضعت على أساس المروي منه ، لكن القصد من ذلك هو الوقوف عند نقطة مهمة هي قصر الأخذ عن الأعراب دون غيرهم على ما تبين من المقولات السابقة في حقهم ؛ ولكي ندلل على أن رجاحة وثوق النص الشعري لا ينبغي أن تتقدم على رجاحة النص القرآني ، والحديث النبوي .
ثم إن فصاحة الكلام عامة ، والشعر خاصة لا تتوقف عند حد معين ، أو عند الأعراب بالأحرى ، وعلى هذا الأساس من الفهم ينبغي أن يكون أخذ اللغة ؛ لأن عدم التمكن من جانب لغوي واحد لا يعني عدم التمكن من اللغة بأسرها ، إذ قد يتكلم (( المِغلاق الذي نشأ في سواد الكوفة بالعربية المعروفة ، ويكون لفظه متخيرا فاخرا ، ومعناه شريفا كريما ، ويعلم مع ذلك السامع لكلامه ومخارج حروفه أنه نبطي ، وكذلك إذا تكلم الخرسانيّ على هذه الصفة ، فإنك تعلم مع إعرابه ، وتخير ألفاظه في مخرج كلامه أنه خرسانيّ ، وكذلك إذا كان من كتاب الأهواز ))(32) ، وعلى هذا لا يصح أن نستبعد أي نتاج شعري قيل منذ ولادة الشعر في جزيرة العرب ، إذا واكب تطور الحضارة العربية ، إلى عصرنا الحاضر ، أو على أقل تقدير حتى زمن الزبيدي صاحب التاج ، وإن كنت بوصفي باحثا لا أؤمن بقصر صحة الألفاظ ، والمعاني على زمن معين ، ومكان معين ؛ لأن الشعر هو الشعر ، منذ جاهلية القوم حتى زمن الزبيدي ، أو بعده بقليل ، وإن اختلفت ألفاظه ومعانيه ، تبعا لاختلاف التطورات ، والتغيرات التي أصابت الأمة أو نابتها (33) .
إن ما يستوقفني هنا هو أن إجالة النظر في أي كتاب قديم يحيل على أن حجم القواعد النحوية واللغوية التي عوّل فيها على أساليب الشعر أكثر من غيرها (34) ، مع أن الشعر موضع اضطرار وتحريف للكلم ، كما مر ، في قول ابن جني .
المبحث الرابع
دوافع الإعراض عن الاحتجاج ببعض مستويات الأداء اللغوي الشعري
قد وجد الدرس اللغوي الحديث أن ثمة دوافع وقفت ، أو خلقت موقف اللغويين القدامى في انصرافهم عن الاحتجاج والاستشهاد بشعر جمهرة من الشعراء ، وأدباء العربية حتى الذين عاشوا ضمن الإطار / المعيار الزمني الذي كبّل تطور اللغة ، إلا أنها في جملتها أي : تلك الدوافع يمكن الرد عليه ، وعلى النحو الآتي .
1. استخدام ما لا يعرفه العرب من الألفاظ والعبارات (35).
ويرد على هذا الدافع، بأن الألفاظ وعاء المعاني ، والقالب الذي فيه تُصب ، وكل تجدد في المعاني يحيل إلى تجدد في الألفاظ ، وبطرق التعبير عن تلك المعاني ، تبعا لمقتضيات الحياة التي يعيشها المجتمع اللغوي ، بوصف اللغة ظاهرة اجتماعية ، فضلا عن أن في العربية من السَعة ما يساعد على ابتكار الألفاظ والعبارات ، ومادام ذلك الابتكار للألفاظ ، والعبارات جاريا على سنن العربية العامة فلا نرى مسوّغا لإنكاره أو رفضه أو الوقوف منه موقف المتفرج؛ لأن دخول كثير من تلك الألفاظ والعبارات إلى متن اللغة ، بعد المتن مستوى الأداء الكلامي الواقعي قد تم بالفعل وله ما يسوغه ، ويجيزه ، فضلا عن أن العرب كانت تتوخى التجديد في ألفاظها ، وأساليبها دائما وقد حصل التجديد فعلا في ما يحد سياسيا ، وزمنيا بأنه جاهلي ، أو مخضرم ، وقد تبنى البحث مقولة التوسيع اللغوي من جهة كونه يشكل دينامية اللغة (36) .
2. ليونة اللسان ، وضعف اللغة التي يستعملها الشاعر .
ويُرد على هذا المَلحَظ ، بأن اللغة تغلب عليها صفة البيئة التي تعيش فيها ، فإن كانت البيئة مطبوعة بطابع الحضارة والتمدن كانت اللغة جارية على وفق الليونة والسلاسة ، مع أنه لا نعدم فيها سمات الفخامة والجزالة ، وإن كانت البيئة مطبوعة بالبداوة ، والانعزال جرت اللغة على ذلك ؛ لأن اللغة (( ظاهرة اجتماعية تصدق عليها ما يصدق على غيرها من أنواع السلوك الاجتماعي الأخرى ))(37) وإيمانا باختلاف الأداء اللغوي في المستوى الواحد عبر الأزمان ، فإن المستوى اللغوي يتسم بالثبات عامة أي : أن الشعر شعر في الجاهلية ، والإسلام ، والعصر العباسي ، وما تلاه من عصور ، إلا أن الذي يختلف ويتطور وينمو هو طريقة أداء ذلك المستوى ، لا المستوى نفسه . والذي حصل أن هذا الموقف أي : موقف النحاة ، واللغويين من الشعر في مرحلة بعد ما يعرف بـ( عصور الاحتجاج ) هو أنهم فرضوا مستوى لغويا ، أي الشعر بعده أنموذجا ، مأخوذا من حقبة زمنية معينة لإحدى اللغات على مدة أخرى (38) ، وهذا لا يصح ؛ لتغاير السمات التي يحملها الأداء اللغوي في كل حقبة من الحقب ، مع أن المستوى اللغوي واحد ، وفي ضوء هذا التوصيف لا يبدو أن هناك ليونة في اللسان ، ولا ضعفا في اللغة إنما مرجع ذلك هو تأثر اللغة بالبيئة التي تعيش فيها ، وليس الأمر معزوا إلى لين لسان أو ضعف لغة .
3. استعمال الغريب في الشعر عند الشاعر الحضري .
ويمكن إجمال الرد على هذا المَلحَظ بالقول : إن هذا الأمر هو نتاج صراع البيئات التي ينشأ الشعر فيها ، وهذا الصراع في حقيقته إنما هو صراع اجتماعي ، فضلا عن أن هذا الأمر يُعدّ وجها أخر لثنائية ( الحاضرة / البادية ) ، وهو مرتبط بفهم القدماء لما يعرف بـ( السليقة اللغوية ) التي كانوا يحسبونها لبنا تُرضعه الأمهات لأبنائهن ، على عكس ما اثبتت نظريات علم اللغة الحديثة (39) .
ثم إن مصطلح ( الغريب ) لم يكن واضح المعالم ، دقيق الدلالة على ما أريد به إلا فيما بعد(40) ، وعلى هذا فإن تقييد بعض الاستعمالات الشعرية بالإغراب أو الغريبة أمر من نتاج اللغة وينبغي أن يحاكم على وفق معطيات اللغة ، علما أن الرصد اللغوي لا يعدم وجود ( الغريب ) بمفهومه الذي استقر عليه عند شعراء البوادي قديما وحديثا ، وليس البحث بشأن الخوض في غمار تتبع نشوء الغريب أو المراحل التاريخية التي مر بها ، والأسباب الداعية إليه (41) ، إذن لا مسوغ لجعل الغريب تهمة يرمى بها الشعراء / أو المستوى الأدائي اللغوي دون غيرهم ، إذا اتُفِق على أن ( الغريب ) وقع في القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ، فلا غرابة في وقوعه بعد ذلك في الشعر سواء كان هذا الشعر مولدا أو جاهليا بدويا أو حضريا فهو من الظواهر اللغوية التي تحفل بها العربية (42) .
4. الصنعة في الشعر والتكلف (43) .
إنّ الصناعة ، والطبع في الشعر من القضايا النقدية التي تناولتها كتب النقد الأدبي ، وفصلت القول فيها (44) ، والذي يبدو لي في شأنها ، أنها راجعة أيضا إلى تصور القدماء لمفهوم السليقة اللغوية ، لكن الملاحظ أن الصنعة كانت موجودة عند كبار الشعراء كزهير بن أبي سُلمى ، حتى أن بعض قصائده كان تُسمى بـ( الحوليات ) ؛ لأنه كان يديم النظر فيها لمدة حول كامل ؛ ولذا أطلقت على من كان كذلك من الشعراء تسمية ( عبيد الشعر ) ، أفليس هذا من الصنعة ؟ أما التكلف ، فأمر مبني أصلا على تغاير وجهات النظر إلى حقيقة الصنعة والطبع ، وتبعا لذلك قد يصم عالم ما شاعرا بالتكلف في حين أن ذلك الشاعر عند غيره ليس كذلك ، ولا يبدو في شعره تكلف .
إن ما يمكن تقريره بهذا الشأن هو ظهور التكلف في الشعر بُعيد العصور العباسية ، لذلك فالذي يبدو لي أن جملة ما تقدم من أسباب استُبعِد على أساسها جمهرة من الشعراء الفصحاء لا ترتقي إلى أن تكون أسبابا مقبولة عند النظر فيها نظرا علميا ، موضوعيا .
المبحث الخامس
مستوى الأداء اللغوي النثري
أما المستوى الرابع من مستويات الأداء اللغوي المعول عليها في الاحتجاج ، والاستشهاد ، فالنثر متمثلا بأقوال العرب وأمثالهم وحكمهم (45) ، وقد ضيّع اللغويون والنحاة هذا النثر بانصرافهم عنه فهم لا يستعملونه حجة إلا قليلا ، وليس مرد ذلك إلى قلة النثر الفصيح وكثرة الشعر ، كما ذهب إلى ذلك أحد الباحثين (46) ؛ لأن الواقع اللغوي والمنطق الطبيعي للأشياء لا يؤدي إلى ذلك ، فلا يعقل أن العرب لم يكونوا يقولون ، فأين هم ( النحاة واللغويون ) من خطب أساطين الفصاحة في الجاهلية ؟ وأين هم من خطب النبي (u) ، وخطب الصحابة وأهل العلم في الإسلام ؟ وأين هم ، بعد أن اثبت البحث عدم صحة معايير الاحتجاج اللغوي ، من نثر الجاحظ ، وأبي حيان التوحيدي ، وابن المقفع ، وغيرهم الذين وقع الإجماع على فصاحتهم على المشهور من أمرهم وحالهم ؟
غير أن النحاة واللغويين لم يضعوا قواعدهم على أساس النثر ، مع أن هذا مجانب للصواب ولم يلتفتوا إليه في احتجاجاتهم واستشهاداتهم ؛ لأنهم وقفوا بادئ ذي بدء موقفا متزمتا من أهم أصلين من أصول النثر العربي ، القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف .
ومن الملاحظ ، هنا، أن نبوغ شاعر ما في قبيلة ما، كان يعد حدثا خطيرا يستحق العناية والاهتمام ، في حين لم يكن يحظى من ينبغ في النثر من الكتاب والخطباء بذلك ، وهذه ظاهرة واضحة في تاريخ الأدب العربي منذ عصوره المبكرة (47) ، مما يدل على أن تعامل النحاة مع هذا المستوى كان تعاملا تشوبه كثير من الأحكام غير الموضوعية ، والجوانب الاعتباطية في تركه ، فضلا عن أسباب فنية ، وذوقية أخرى قد يكون الاحتكام إليها مقبولا فيما لو دُرس النثر من الجوانب الأدبية والفنية ، ولكن دراسته من الجانب اللغوي أمر لا يخلو من صعوبة ومشقة (48) .
ومن النثر أيضا ، عدا الأقوال والخطب ، المثل الذي يعرف عنه أنه قيل بألفاظه ، ونقل كما قيل من غير تغيير ، مع ما قد يحتمل من تدخل الرواة فيه ، إلا أن النحاة واللغويين احتجوا به ، ولكن على قلة أيضا ، والسبب معلوم ، وهو غلبة الشعر ؛ لأنهم أي : اللغويين والنحاة كانوا ينظرون إلى الشعر نظرة تقديس ، لا يتصورون معها صدور الخطأ عن اؤلئك الشعراء الذين احتجوا بهم (49) ، وليتهم استمروا بنظرتهم تلك ، فلم يوقفوا الاحتجاج بالشعر عند أمكنة معينة .
إن بعض الباحثين يرى أن مكانة هذا المستوى اللغوي ( النثر ) لا تقل عن مكانة الشعر في الاحتجاج اللغوي ، بل هو الذي ينبغي أن يعول عليه قبل الشعر ؛ لأنه (( الأقرب إلى تمثيل لغة العرب الحية الصادقة ، والمحاكي للغة الحياة اليومية بكل تفصيلاتها وعناصرها ، فالنثر العربي أبعد ما يكون عن التكلف والصنعة ومقتضيات الضرورة التي قد تحيد باللغة عن بعض سياقاتها الطبيعية ، فالنثر لغة الفطرة التي فُطرت عليها ألسنة العرب ، وعقولهم ، وقلوبهم ، وهو خلاصة تجارب العرب ، وخبراتهم على مر السنين ، وقد ورد على لسان حكمائهم وعقلائهم ، وذوي الشأن منهم ؛ لذا فقد حاز من الفصاحة ، والبلاغة ما جعله ركيزة من ركائز المنابع اللغوية التي يستقي منها النحاة ، واللغويون مادتهم عبر تاريخ الدراسات اللغوية حتى عصرنا الحاضر ))(50) .
إن هذا التوصيف يصدق على ما يفترض أن يكون عليه هذا المستوى الأدائي اللغوي من مكانه بوصفه منبعا من منابع الاحتجاج اللغوي ،لا ما عليه واقع تعامل النحاة واللغويين معه فضلا عن أننا أردنا توكيد أسبقية النثر على الشعر ؛ لأنه لغة الفطرة ، وهذا له ما ينهض دليلا على صحته ، فعمر الشعر العربي لا يزيد على مئتي سنة قبل الإسلام ، فقبل ظهور الشعر بماذا كان العرب يتفاهمون ويتواصلون وينجزون شؤون حياتهم اليومية ؟ لا شك أن ذلك كان بالنثر مما يؤكد مجانبة القدامى للصواب في منهجهم في التعامل مع النثر، وتقديم الشعر عليه ، فاللغة فيها جانبان ، جانب منظوم وجانب منثور ؛ لذلك فمن غير المنصف ، هنا ، إيثار الشعر على النثر .
الخاتمة
إنّ خلاصة ما يبدو لي في مستويات الأداء اللغوي هو ما يمكن إجماله بما يأتي :
1. لم يتعرض البحث لمناقشة أو بيان ما كان يعتري كل مستوى من تلك المستويات من مشكلات اشتهر الحديث عنها قديما وحديثا ، وفصلتها كثير من مباحث اللغويين القدامى ، ودراسات المحدثين ، كقضية القراءات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، وتعدد الروايات في الشواهد الشعرية وقضية الوضع فيها .
2. ضرورة إعادة تشكيل خارطة تلك المستويات على نحو يأخذ القرآن الكريم فيها مكان الصدارة يتلوه الحديث النبوي الشريف مطلقا بلا شرط أو قيد ، يتلوه الشعر ، ثم النثر ، هذا إذا لم يكن ضير بإلحاق النثر بعدِّه مستوى فرعيا ضمن مستوى الحديث النبوي الشريف ، وليس القرآن الكريم ، لعده أول المستويات ، وسيدها ، وخاصها الذي لا يقدم عليه في الخصوصية شيء آخر.
3. إن من المشكلات الخطيرة التي وقعت فيها المدونة اللغوية العربية القديمة في عصر التقعيد النحوي واللغوي ، هي تحكيم قواعد الشعر في القرآن ، لا العكس الذي كان ينبغي أن يكون تحكيم قواعد القرآن في الشعر ، وسبب ذلك هو تقديم الشعر على القرآن .
4. تحكيم قواعد المنظوم (الشعر ) في المنظوم والمنثور على السواء ، وهذا تنشأ عنه مشكلات جمة؛ لأن لكل مستوى سماته ، وخصوصياته باعتراف النحاة واللغويين أنفسهم ، حين فرقوا بين الشعر والنثر .
5. إن شواهد الشعر في المدونة اللغوية العربية القديمة ، غلبت على سواها من الشواهد ، ونظرة عَجْلَى في كتاب سيبويه تصدّق ، وتؤيد ما ذهبنا إليه ، إذ بلغ عدد شواهده الشعرية ( 1056 ) شاهدا(51) .
6. إن القواعد الكلية التي وضعها النحاة ، واللغويون ، يمكن إعادة قراءتها في هدي التشكيل الجديد لترتيب مستويات الأداء اللغوي التي تبناها البحث ، وسيُرى ما يمكن أن يحدث من نتائج إيجابية جدا تصحح مسار كثير من مشكلات الدرس اللغوي العربي قديما ، وحديثا .
7. إن استقراء النحاة واللغويين العرب القدامى كان يشوبه أحكام آنية ، وذوقية في أحايين كثيرة إذ قسموا ذلك الاستقراء على قسمين ، أحدهما : اشتهر استعماله وكثرت نظائره فجعلوه قياسا مطردا ، والآخر : لم يظهر لهم فيه وجه القياس؛ لقلته ، وكثرة ما يخالفه ، فوصفوه بالشذوذ ووقفوه على السماع ؛ لا لأنه غير فصيح ، بل لأنهم علموا أن العرب لم تقصد بذلك القليل أن يقاس عليه . وهذا يحيل على جملة من النقودات والملحوظات التي تبدو الإشارة إليها مهمة ، وهي :
أ. اعتمدوا على معايير فرعية احتكموا إليها في تدوين الكلم ، او استبعاده منها ( الكثرة / والقلة / والشذوذ / والندرة / والإغراب ) ، إلى غير ذلك مع التفاوت الواضح في عد تلك المعايير ، فما كان كثيرا عند فريق منهم ، قد يكون قليلا عند فريق آخر .
ب. إن الحكم على الكلام العربي في هدي ذلك ، أربك عملية التدوين اللغوي ، وكذلك التقعيد لأن تلك الأوصاف أو الأحكام وصفت وتدخلت في كل مستويات الأداء اللغوي التي عُوّل عليها في الاحتجاج اللغوي .
ت. إن وصفهم القليل الفصيح ، بعدم قياس العربِ عليه ، إنما هو اعتذار أوهى من بيت العنكبوت ؛ لأن القياس على ما ترد عليه الآيات الكريمات ، وإن خالف المشهور من كلام العرب ، هو الصواب ، إذ القرآن الكريم هو المستوى الأصح والأفصح والأكثر الذي ينبغي الاحتكام إليه .
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاقتراح في علم أصول النحو، لأبي عبدالرحمن جلال الدين السيوطيّ ( 911 هــ)، تحقيق: د. أحمد سليم الحمصيّ ، د.محمد أحمد قاسم، ط1، جروس برس، طرابلس ـ لبنان 1988م : 36 .
(2) ينظر : دراسات في العربية وتاريخها، فضيلة الأستاذ الأكبر محمد الخضر حسين، شيخ الجامع الأزهر،ط2، المكتب الإسلامي، مكتبة دار الفتح، دمشق ـ سورية، 1960م : 30 ـ31
(3) مفهوم السليقة اللغوية في التراث النحوي عند العرب دراسة لسانية ( رسالة ماجستير ) ، مصطفى بو جمالة ، جامعة الجزائر ، كلية الآداب واللغات ، قسم اللغة العربية وآدابها السنة الجامعية ، 2002 ـ 2003 م : 14.
(4) ينظر : المصدر نفسه : 15 ـ 16.
(5) كتبت دراسات كثيرة عن الموقف من الحديث النبوي الشريف ، ومسألة الاحتجاج به ، ولعل دراسة الدكتورة خديجة الحديثي ” موقف النحاة من الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف ” أوفاها ، وأشملها ، وأكثرها بيانا ، وتفصيلا مع أن جانب العرض ، والوصف غالبان عليها (6) الخصائص ، لأبي الفتح عثمان بن جني ( 392 هـ) ، تحقيق : د. عبدالحميد هنداوي، ط3، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 2008م : 3/ 188 .
(7) الإحكام في أصول الأحكام ، لأبي محمد بن علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري ( 456 هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، قدّم له : الاستاذ الدكتور إحسان عباس، دار الآفاق الجديدة ، بيروت ـ لبنان ، د.ت : 306 .
(8) ينظر : الشاهد القرآني وأثره في التقعيد للقواعد النحوية واللغوية ( بحث ) ، د.صالح علي محمد النهاري ، موقع شبكة الفصيح على الشبكة العنكبوتية : 8 .
(9) الاستشهاد والاحتجاج باللغة، رواية اللغة والاحتجاج بها في ضوء علم اللغة الحديث،د.محمد عيد، ط3، عالم الكتب، القاهرة ـ مصر ، 1988م : 132 ـ 133 .
(10) مباحث في مشكلات النحو العربي وسبل علاجها : 81 .
(11) من سورة المائدة ، الآية : 48 .
(12) ينظر : الشاهد القرآني وأثره في التقعيد للقواعد النحوية واللغوية ( بحث ) : 9.
(13) الاقتراح في علم أصول النحو : 36.
(14) المصدر نفسه : 40 .
(15) من تلك الدراسات : الاستشهاد بالحديث الشريف في المعاجم العربية ( أطروحة دكتوراه ) أشرف محمد حافظ ، جامعة الأسكندرية ، كلية الآداب ، 1999 ، ومعاجم غريب الحديث والأثر ، والاستشهاد بالحديث في اللغة والنحو ( أطروحة دكتوراه ) السيد الشرقاوي ، جامعة عين شمس ، كلية الآداب ، 1989 ، الحديث النبوي الشريف في النحو العربي ، د. محمود فجال نشر نادي أبها الثقافي ، 1984 ، الحديث النبوي وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية ، رسالة ماجستير ، محمد ضاري حمادي ، جامعة بغداد ، كلية الآداب ، 1973 ، الاستشهاد بالحديث النبوي وأثره على المسائل النحوية والصرفية ( رسالة ماجستير ) ، سليمان إبراهيم المطرودي ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، كلية اللغة العربية ، 1403 ، إلى غير ذلك من الدراسات الوافرة ، والمتنوعة .
(16) ينظر : قضية الاحتجاج للنحو واللغة ( بحث ) ، د. حمزة بن قبلان المزيني ، مجلة جامعة الملك سعود ، م 10 ، الآداب ، 1998م : 4.
(17) صحيح البخاري ، لابن اسماعيل أبي عبدالله البخاريّ ( 194 هـ) ، تحقيق : زهير بن ناصر الناصر، ط1، دار طوق النجاة ، 1422 هــ د.م : 1/33 ، الحديث رقم ( 107 ) .
(18) الإبانة الكبرى، لأبي عبدالله محمد بن محمد بن حمدان العكبري المعروف بابن بطة العكبري(387هـ)، تحقيق: رضا معطي، وعثمان الأثيوبي، ويوسف الوابل، ط1، دار الراية للنشر والتوزيع ، الرياض ـ المملكة العربية السعودية، 1988م : 1/198 .
(19) الشاهد القرآني وأثره في التقعيد للقواعد النحوية واللغوية ( بحث ) : 10 .
(20) ينظر : المصدر نفسه : 10.
(21) الاستشهاد والاحتجاج باللغة : 135 ـ136 .
(22) ينظر : الحديث النبويّ في النحو العربيّ،د. محمود فجّال ، ط2، دار أضواء السلف، الرياض ـ المملكة العربية السعودية، 1997م : 314 .
(23) ينظر : شواهد الشعر في كتاب سيبويه،د.خالد عبدالكريم جمعة، ط2، الدار الشرقية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة ـ مصر، 1989م : 268 ـ 302 .
(24) ينظر : قضية الاحتجاج للنحو واللغة ( بحث ) : 4 .
(25) ينظر : الاستشهاد والاحتجاج باللغة : 129 ـ 130 .
(26) وهما طبقة المحدثين كأبي تمام ( 231 هـ) ، والبُحتُري ( 284 هـ) ، والمتأخرين كالمتنبي ( 354 هـ).
(27) الشعر والشعراء، لابن قتيبة عبدالله بن مسلم الدينوري(276هـ)، طبعة محققة ومفهرسة، دار الثقافة ، بيروت ـ لبنان، 1964م ( مقدمة المصنف ) : 1/ 64 .
(28) ينظر : الاحتجاج الشعري في النحو ( بحث ) ، يوسف عبود، مجلة المعرفة السورية، العدد 548، دمشق ـ سوريا، آيار 2008م : 3ـ 4 .
(29) كتاب النقائض، نقائض جرير والفرزدق، لأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصريّ(209 هـ) ، وضع حواشيه : محمد أحمد عبدالعزيز سالم، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان ، 2007م : 45 .
(30) الحيوان ، عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الجاحظ (255هـ) ، ط2 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ـ لبنان ، 2004 م : 2/ 150 ـ 151 .
(31) البيان والتبيين ، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( 255 هـ) ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت ـ لبنان ، د.ت : 1/ 65 .
(32) ينظر : قضية الاحتجاج للنحو واللغة ( بحث ) : 9.
(33) ينظر: الخصومة بين النحاة والشعراء أسبابها وصورها ، د. محمد غالب عبدالرحمن ، ط1، نادي جازان الأدبي ، جازان ـ المملكة العربية السعودية، 1999م : 26 .
(34) ينظر: الشاهد القرآني وأثره في التقعيد للقواعد النحوية واللغوية ( بحث ) : 13 .
(35) ينظر : الاستشهاد والاحتجاج باللغة : 129 .
(36) المستوى اللغوي للفصحى وللهجات وللنثر والشعر ، د.محمد عيد ، عالم الكتب ، القاهرة ـ مصر، 1981 م : 11 .
(37) ينظر : المصدر نفسه : 12.
(38) ينظر : نشأة اللغة عند الإنسان والطفل،د.علي عبد الواحد وافي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة ـ مصر، 2003م : 15 .
(39) ينظر : معاجم غريب الحديث والأثر والاستشهاد بالحديث في اللغة والنحو،د. السيد الشرقاوي، ط1، مكتبة الخانجي بالقاهرة، القاهرة ـ مصر، 2001م : 10 ـ 15 .
(40) ينظر : أنماط التأليف في غريب القرآن, منذ النشأة حتى الوقت الحاضر, لعبدالكريم حسين السعداوي, رسالة ماجستير, كلية التربية, جامعة الكوفة, 1999م : 12 .
(41) ينظر : ظاهرة الغريب في اللغة العربية حتي نهاية القرن الثالث الهجري مع تحقيق تفسير غريب القران لزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي القرشي الشهيد ( 120هـ) ، ( أطروحة دكتوراه ) ، حسن محمد تقي سعيد ، جامعة عين شمس ، كلية اللغة العربية ، 1989م : 24 ، الغريب في العربية (رسالة ماجستير ) ، مروج غني جبار العطار ، جامعة بابل ، كلية التربية ، 2005م : 7 ـ 9 .
(42) ينظر : الاستشهاد والاحتجاج باللغة : 163 .
(43) ينظر : العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني الأزديّ ( 463هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، ط5، دار الجيل، بيروت ـ لبنان، 1981م : 1/ 73 .
(44) ينظر : الاقتراح في علم أصول النحو : 54 ـ 55.
(45) ينظر : الشاهد القرآني وأثره في التقعيد للقواعد النحوية ، واللغوية ( بحث ) : 11 .
(46) ينظر : المستوى اللغوي للفصحى واللهجات وللنثر والشعر : 109 .
(47) ينظر : المصدر نفسه : 103 .
(48) ينظر : نحو التيسير دراسة ونقد منهجيّ،د. عبدالستار الجواريّ، مطبعة المجمع العلمي العراقيّ، بغداد ـ العراق، 1984م : 50 .
(49) ينظر : الشاهد النحوي في معجم الصحاح للجوهري ( رسالة ماجستير ) ، مأمون محمد تيسير مباركة ، جامعة النجاح الوطنية ، كلية الدراسات العليا ، نابلس ـ فلسطين ، 2005 م : 151 .
(50) ينظر : شواهد الشعر في كتاب سيبويه : 179 .
ABSTRACT
Praise be to Allah, the Lord of the Worlds, and prayers for the best who pronunciation with Aldhad, the Arabic Noble Prophet Muhammad (Pray God upon him in recognition ), The Lord of the Infallible Imams, his family and the righteous.
And after…
This research is to show how to deal Entries lexical Arabic with what is known as (sources protest linguistic) that I thought I should call it (the performance levels of language) because they in fact represent patterns of words and uses with different dimensions, including Qoran, which we placed first in the map of the protest linguistic all possibilities Performing received (mean of all readings), and Hadith that stops the grammarians and the people of language attitude extremely and they did not see invoked in the body language, but the determinants of proven research to be incorrect and weaknesses, and not worth, he saw to be the second level of the linguistic use, and then Arabic poetry Being forced position, and comes after the Arab prose that did not offer the poetry originally or we follow it with the second level in order to re-arrange the map verbal performance levels as such excluded the order in which they popularized in the blog ancient Arabic language.
I have seen that I divided the search into five Detectives, I named the first (level of linguistic performance Quran), I named Section II (level of linguistic performance of Hadeth), I called third section (the level of linguistic performance poetry), I named fourth section (motivated reluctance to protest some performance levels poetic language ,and I named Section V (level of linguistic performance prose), the research has appended with a conclusion offered by the most important findings I ended it in a summary brief, In the end I ask Allah good luck and success.
Linguistic levels of performance and the Arab lexicon
A THESIS
SUBMITTED BY
ALI KHALIF HUSSEIN ALABAIDI
SUPERVISED
BY
DR.PRO.ABID ALRAHMAN MUTLAQ ALJUBORI