المحاضرة الأولى
مفهوم العالم الثالث
هو مصطلح سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، يقصد به الدلالة على الدول التي لا تنتمي إلى العالمين الأول والثاني، استُعمل تعبير العالم الثالث لأول مرة سنة 1952 في مقالة صدرت للاقتصادي والسكاني الفرنسي ألفريد سوفيه في إشارة إلى الدول التي لا تنتمي إلى مجموعة “الدول الغربية” (أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا واليابان وجنوب إفريقيا) ولا إلى مجموعة الدول الشيوعية (الإتحاد السوفياتي والصين وأوروبا الشرقية). وقد استوحى سوفيه هذه التسمية من الفئة الثالثة في المجتمع الفرنسي أثناء النظام القديم وقبل الثورة الفرنسية.
ويقصد بالعالم الأول أو المعسكر الرأسمالي أو المعسكر الغربي ذلك المفهوم الذي برز خلال الحرب الباردة، حيث كان يستخدم لوصف الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة، تلك الدول كانت ديمقراطية ورأسمالية. بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، تغير معنى مصطلح العالم الأول وأصبح معناه مترادفًا إلى حد ما مع الدول المتقدمة أو الدول المتقدمة جدا وهي الدول التي تتمتع باقتصاد متقدم ومؤشرات تنمية بشرية عالية. عرَّفت هيئة الأمم المتحدة العالم الأول على حسب مقياس الناتج القومي الإجمالي. الديناميكيات العالمية بين العالم الأول والعوالم الأخرى انقسمت إلى قسمين: العلاقات مع العالم الثاني كانت تنافسية، إيديولوجية، وعدائية. أما علاقتها مع العالم الثالث كانت عادة إيجابية من الناحية النظرية، في حين أنها كانت أحياناً عدائية في الممارسة العملية (كالحروب مثلًا).
أما العالم الثاني فهو المصطلح الذي يشير عادة الى دول المعسكر الشيوعي أو المعسكر الشرقي هي مجموعة الدول الداخلة تحت نطاق الاتحاد السوفييتي، أو تلك البلدان التي تتميز باقتصاد مخطط مسبقاً الاشتراكية ، معارضة بذلك المنظومة الفكرية للعالم الأول.واستخدم مصطلح العالم الأول ومصطلح العالم الثالث بالإضافة إلى هذا المصطلح لتقسيم العالم إلى ثلاث فئات واسعة. وبعبارة أخرى فإن مصطلح العالم الثاني نشأ بسبب الحرب الباردة. وهذا المصطلح قد انخفض استخدامه بشكل كبير منذ ثورة 1989. على الرغم من ذلك فإنه لا يزال يستخدم لوصف الدول التي ما بين الفقر والرخاء، وكثير منها دول شيوعية ودول شيوعية سابقة. ودول تتميز دول العالم الثاني عن دول العالم الأول برفضها للثقافة الليبرالية وللثقافة الرأسمالية المفتوحة، كما تتميز عن العالم الثالث بالمستوى التعليمي فيها وحجم دولها وبقوتها النسبية. والمعنى الفعلي لتلك المصطلحات قد تغير من كونها مبنية على الفكر السياسي، وأصبحت تعتمد على النظام الاقتصادي في الدولة.
وأحيانا يطلق على هذه الدول مصطلح “الدول النامية“، وهي دول ذات مستوى معيشي منخفض مقارنة بالدول المتقدمة، ولا يستقيم فيها التوازن بين سرعة نمو السكان ودرجة التقدم الاقتصادي، وتعاني هذه الدول من التخلف الاقتصادي، إذ يرى بعض الدارسين أن دول العالم الثالث هي التي لم تستفد من ثورة القرن التاسع عشر الصناعية، وعلى هذا تعد دولا آخذة في النمو أو دولا متخلفة.
لم يكن لما يعرف بالعالم الثالث الآن وجود أصلا على خريطة العلاقات الدولية قبل الحرب العالمية الثانية. وانقسم عالم ما بعد الحرب مباشرة إلى عالمين: عالم أول رأسمالى تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، وعالم ثان اشتراكى يتزعمه الاتحاد السوفيتى. أما العالم الذى نطلق عليه اليوم اصطلاح “العالم الثالث” والذى يشمل تقريبا كل بلاد القارات الثلاث: أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فقد كان واقعا تحت الهيمنة المطلقة للعالم الأول سواء بالاستعمار المباشر كما فى حالة أفريقيا وآسيا أو بالاستعمار غير المباشر كما فى حالة أمريكا اللاتينية .
وكان منطلق النظام الدولى عقب الحرب العالمية الثانية يكاد لا يترك أى مجال للخيار الحقيقى أمام الدول الجديدة التى بدأت تدخل على مسرح العلاقات الدولية لأول مرة بعد حصولها على الاستقلال، فقد بدأ الأمر وكأنه لا مقر أمام هذه الدول من أن نلحق بذيل إحدى الكتلتين المتصارعتين. وقد تصادم هذا الخيار المر، وبعنف، مع تطلعات حركات التحرير الوطنية التى قادت حروب الاستقلال والتى تمثل هدفها الأول فى تحقيق الاستقلال الكامل، وكانت أبسط مضامين الاستقلال الوطنى تقتضى بأن تأتى السياسة الخارجية للدول الجديدة تعبيرا عن مصالحها القومية الخاصة دون أن ترتبط سلفا وبالضرورة بمصلحة هذه الكتلة أو تلك ولذلك نجد أن هذه الحركات قد عبرت بشكل أو بآخر. وفى مراحل مبكرة عن رغبتها فى عدم الزج بنفسها فى حلبة الصراع الأيديولوجى بين الكتلتين. ومن هنا نجد أن سياسة عدم الانحياز تضرب بجذورها فى الواقع عميقا فى تربة الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار ولم تكن مجرد خيار سياسى طرحته بعض قيادات هذه الدول فى منتصف الخمسينات، كما هو شائع، لتواجه به موقفا فرضته طبيعة النظام الدولى فى هذه الفترة .
لم تكن سياسة عدم الانحياز، والتى طرحتها العديد من الدول كبديل لسياسة المحاور والأحلاف، مجرد موقف سياسى من قضية دولية هى قضية الصراع بين الشرق والغرب، وإنما كانت فى جوهرها وفى حقيقة أمرها محاولة لتحديد هوية الدول التى خضعت للاستعمار، أو بقيت بعنيدة عن مجرى التفاعلات الدولية فى العصر الحديث كما كانت فى الوقت نفسه محاولة لتحديد دور هذه الدول فى صنع السياسة الدولية وموقفها من النظم السياسية، والاقتصادية والقانونية العالمية التى صنعت فى غيبتها وبمعزل عنها بل وضد إرادتها ومصالحها.
ونظرا للظروف التاريخية الخاصة بدول أمريكا الجنوبية وسيطرة رأس إحدى الكتل المتصارعة : وهى الولايات المتحدة، عليها، فقد كان من الطبيعى أن تنبثق محاولات تنظيم العالم الجديد من قلب دول قارتى آسيا وأفريقيا. وقد اتخذت هذه المحاولات فى البداية شكل التنسيق بين مواقف عدد من الدول الأفريقية والآسيوية داخل الأمم المتحدة إذ سرعان ما اكتشفت هذه الدول أن هناك أرضية مشتركة تجمعها وأن التنسيق بين مواقفها يمكنها من أن تلعب دورا مستقلا ومتميزا فى هذه المنظمة العالمية. وكان هذا التنسيق حافزا لأن تنبثق عن مؤتمر كولومبو الذى انعقد فى الفترة من 5 إبريل إلى 2 مايو 1954 وضم عددا من الدول الآسيوية فكرة عقد مؤتمر للتضامن الأفريقى الآسيوى. وبالفعل تم وضع الخطوط النهائية لهذه المؤتمر آخر عقد فى بوجور فى الفترة من 28-29 ديسمبر من نفس العام. وهكذا ولد مؤتمر باندونج الشهير والذى عقد فى الفترة من 18-24 إبريل 1955.