مناهج البحث في الشخصية
- منهج اختبار الفرضيات
منذ فترة ليست بعيدة ، كتبت “يائسة في دلاس” الى عمود النصائح في احدى الصحف حول ابن زوجها ذي ال 16 عاما، الذي يسكن معهم. الولد لا يريد العمل، لا يريد الذهاب الى المدرسة وهو على العموم كان ضيفا فوضويا. ماذا عليها ان تفعل؟ كاتب العمود شرح لل”اليائسة” ان مشكلة الولد الحقيقية كانت الرفض الذي تلقاه من والديه في المراحل المبكرة من حياته. خبرات الطفولة المبكرة كانت المسؤولة عن قلة دافعية الولد. في الاسابيع القلية اللاحقة، مستشار الجريدة شرح ل ” المتسائلة من بوسطن” من ان الولد ذي الخمس سنوات اصبح عدوانيا من كثرة مشاهدة برامج العنف على شاشة التلفاز. وهي اخبرت “المجهولة من هيوستن” ان ابنتها ذي الخمسة اعوام سوف تصبح قيادية، ومفتونه بالجمال, ايضا فان بعض الناس يكونون عاجزين بشكل روتيني ويشكون من الام واوجاع بينما اخرين يكونون قادرين على تجاهلها.
في كل هذه الامثلة, فان كاتب العمود اكتشف لماذا شخص بعينه ينغمس بسلوك معين بشكل مستمر, وهو ما يشكل شخصية الفرد. يعتقد ملايين الناس بان كاتب العمود لديه ما يقوله حول السلوك الانساني. ولكن كيف لها ان تعرف؟ هل الخبرة؟ الذكاء؟ الحرص على النظر داخل طبيعة الانسان؟ كل ذلك ممكن. بشكل او اخر, فان نصيحة كاتب العمود تمثل واحده من السبل لفهم الشخصية- من خلال وجهة نظر الخبير. ومن طرق اخرى فان كاتبة العمود تشبه منظري الشخصية العظماء الذين يقومون بدراسة اعمال الاخرين, ويقومون بملاحظاتهم الخاصة, ومن ثم يقومون بوصف ما يعتقدون انه يسبب سلول الانسان. فان سيجموند فرويد اقترح العديد من الافكار الرائده حول الشخصية. لقد اطلع فرويد وقرأ بشكل موسع حول ما قاله معاصريه حول السلوك. لقد عمل مع واستشار بعض عظماء المفكرين في وقته والذين كانوا مهتمين بالظواهر النفسية. كما راقب فرويد مرضاه بعناية, الذين اتوا اليه مع مختلف المشاكل النفسية. ومن هذه المعلومات التي جمعت من كل تلك المصادر, طور فرويد نظرية في الشخصية والتي انفق في تعزيزها بقية حياته المهنية.
على الرغم من ان فرويد كان اكاديميا اكثر من كونه مجرد كاتب لعمود في مجلة فقد كانت كتاباته عادة تستحضر استجابات مشابهة: كيف عرف ذلك؟ كانت افكار فرويد مثيرة للاهتمام , كما ان حججه كانت مقنعة في نفس الوقت, لكن معظم علماء النفس الشخصية كانوا يحتاجون اكثر من مجرد وجهات نظر خبير قبل ان يقبلوا نظريته في الشخصية. انهم يريدون بحوث تجريبية. انهم يريدون دراسات لاختبار مفتاح التنبؤ الرئيسي للنظرية. انهم يريدون ارقام قوية لدعم هذه التنبؤات. وهذا لا يعني ان رأي الخبير ليس ذو قيمة. بل على العكس تماما, اراء وملاحظات منظري الشخصية تشكل العمود الفقري لهذا الكتاب. لكن النظريات لوحدها تعطي جانب واحد من الصورة. ان فهم طبيعة شخصية الانسان تتطلب ايضا اختبارما تعلمه علماء النفس من التجارب المخبرية الصارمة.
تقدم هذه المقالة مقدمة مختصرة لبحوث الشخصية, ابتداء من وصف لبعض المفاهيم الاساسية المصاحبة لاختبار فرضيات مناهج البحوث, مع التركيز على مواضيع مرتبطة بشكل اساسي ببحوث الشخصية. لاحقا سوف نلقي نظرة على اجراءات البحث التي لعبت دورا مميزا في تاريخ علم نفس الشخصية-وهي منهاج دراسة الحالة. لاحقا سوف نلامس بشكل بسيط ما سوف تحتاج لمعرفته حول التحليل الاحصائي للبيانات. اخيرا, سوف نراجع بشكل سريع بعض المفاهيم المرتبطة بقياس الفروق الفردية بالشخصية.
منهاج اختبار الفرضيةThe hypothesis-Testing Approach
في بعض المناسبات كل منا يعطي تخمينات حول طبيعة الشخصية. ربما تتساءل لماذا تبدو انت اكثر وعي ذاتي من الاخرين, لماذا يكون افراد الأسرة غالبا مكتئبين, او لماذا لديك عدد كبير من الاصدقاء ذوي المشاكل. في الحالة التالية, ربما راقبت الطريقة التي تتصرف بها احدى الطالبات ذوات الشعبية مع الناس الاخرين وانت تقارن سلوكها بسلوكك مع الغرباء. ربما انت حاولت ان تغيير سلوكك ليصبح مشابها اكثر لسلوكها وراقبت لترى تأثير ذلك على ردت فعل الناس لك.
في الاساس, الفرق بين هذه العملية والتي يستخدمها علماء النفس تكمن فقط في درجة التطور. مثلنا جميعا, الباحثين في علم النفس يخمنون حول طبيعة الشخصية. من خلال الملاحظات, والمعرفة حول النظريات والبحوث السابقة, والتكهن بعناية, فان هؤلاء الباحثين يشتقون فرضيات حول سبب سلوك ناس بعينهم بالطريقة التي يتصرفون بها. بعد ذلك, باستخدام الطرق التجريبية, يقوم الباحثون بجمع البيانات لينظروا فيما اذا كانت توقعاتهم حول سلوك الانسان صحيحة. بما يشبه القطع في احجية كبيرة, كل دراسة تعطي اسهاما اخر في فهمنا للشخصية. مع ذلك, في الوقت الذي تصل فيه الى نهاية هذا الكتاب, سوف يتضح بشكل جلي ان هذه الاحجية سوف لن تنتهي ابدا.
النظريات والفرضيات Theories and Hypotheses
اغلب بحوث الشخصية بدأت بنظرية- وهو بيان عام حول العلاقة بين بنيات constructs او احداث. تختلف النظريات في نطاق الاحداث او الظواهر التي تفسرها. بعض هذه النظريات كانت واسعة جدا, مثل اغلب نظريات الشخصية التي تم نقاشها في هذا الكتاب. علماء النفس استخدموا نظرية فرويد للتحليل النفسي لتفسير المواضيع متنوعة مثل تلك التي تسبب الاضطرابات النفسية, لماذا يعود الناس الى الدين, ولماذا تكون المزحة مفرحة. مع ذلك, باحثوا الشخصية يعملون بشكل اساسي مع نظريات اضيق نطاقا بكثير في التطبيق. مثال ذلك, ربما يتكهن الباحثين حول اسباب ان يكون بعض الناس اكثر دافعية للتحصيل من غيرهم او حول علاقة سلوك الاباء بمستوي تقدير الذات لاطفالهم. ربما من المفيد التفكير بنظريات كبيرة, كنظرية فرويد, كتجميع اكبر عدد من النظريات المحددة التي تتشارك في افتراضات حول طبيعة شخصية الانسان.
النظرية الجيدة تمتلك على الاقل خاصيتين. الاولى, ان النظرية الجيدة تكون شديدة البخل parsimonious . عادة يعمل العلماء تحت “قانون البخل” وهو ان النظرية البسيطة والتي تكون قادرة على تفسير الظاهرة تكون الافضل. وكما سوف ترى خلال هذا الكتاب, نظريات عدة يمكن ان تولد لتفسير اي سلوك. البعض يمكن ان يكون واسعا جدا, يتضمن العديد من المفاهيم والافتراضات, بينما النظريات الاخرى تفسر الظاهرة بمصطلحات بسيطة ذات صلة. اي نظرية هي الافضل؟ على الرغم انه في بعض الاحيان يبدو ان العلماء يستمتعون بتغليف اعمالهم بمصطلحات مثيرة ومفاهيم باطنية, والحقيقة هي لو كانت نظريتان قادرتان على المساهمة بشكل متساوي في تفسير ظاهرة, فان التفسير البسيط هو المفضل.
والثانية, ان النظرية الجيدة تكون مفيدهuseful . بصورة اكثر دقة, ما لم تكن النظرية قادرة على توليد فرضيات قابلة للاختبار, فانها سوف تكون محدودة الاستعمال او لا تستعمل من قبل العلماء.ان الافكار التي لايمكن ان تختبر علما ليس من الضروري ان تكون خاطئة. على سبيل المثال ان الناس عبر التاريخ قد اختبروا الاضطرابات نفسية باعتبارها شياطين غير مرئية تستولي على اجساد الناس. وهذه قد تكون افتراضات صحيحة او غير صحيحة حول اسباب الاضطرابات. ولكن ان لم تكن هذا التفسير قابل للاختبار بطريقة او اخرى, فان النظرية التي لايمكن التحقق من صحتها من خلال المناهج العلمية تكون بذلك ذات قيمة صغيرة عند العلماء.
مع ذلك, فان النظريات بحد ذاتها لم تختبر على الاطلاق. بالمقابل, فان الباحثين يستمدون ذلك من فرضيات النظرية القابلة للتحقق. ان الفرضية هي التنبؤ الرسمي حول العلاقة بين اثنين او اكثر من المتغيرات والتي تشتق بشكل منطقي من النظرية. على سبيل المثال, يهتم العديد من علماء النفس بالفروق الشخصية بالشعور بالوحدة( الفصل 12) . وهم يرغبون بمعرفة لماذا يعاني بعض الناس من الشعور بالوحدة بشكل مستمر, بينما يشعر الاخرين بها بشكل محدود. تفترض احدى النظريات بان الذين يشعرون بالوحدة ينقصهم المهارات الاجتماعية الضرورية لتطوير وادامة علاقات اجتماعية مرضية. ولان هذه نظرية مفيدة, فان العديد من التنبؤات يمكن ان تشتق منها بشكل منطقي, وكما موضح في الشكل 2.1. . مثلا , اذا وصفت النظرية اسباب الوحدة بشكل صحيح, فاننا من المحتمل ان نتوقع ان الناس الوحيدون سيقومون بمحاولات لبدء المحادثات بشكل اقل من الناس غير الوحيدين. التنبؤ الاخر يمكن ان يكون هؤلاء الناس الوحيدون لديهم افكار بسيطة حول اسلوب تصور الاخرين لهم. التنبؤ الاخر ربما هو ان الناس الوحيدون يذكرون عبارات غير مناسبة اجتماعيا اثناء الحديث بصورة اكبر مما يفعله غير الوحيدون.
يمكن اختباركل واحدة من هذه التنبؤات , فمثلا , يمكن لنا ان نختبر التنبؤ الاخير عن طريق تسجيل محادثات لأناس وحيدين وغير وحيدين مع اناس تعرفو اليهم حديثا. يمكن ان يتم الحكم من خلال عدد الاستجابات المناسبة, وعدد الاسئلة المناسبة وهكذا. فاذا كان الاشخاص الذين يعدون انفسهم وحيدون تداخلوابإجابات مناسبة اقل اثناء المحادثة, فان التنبؤ قد اوكد. وعندها سنقول ان لدينا دعم للنظرية. ولكن يجب الملاحظة ان النظرية لم تختبر بصورة مباشرة. في الحقيقة ان النظرية لايمكن ان تثب او تنفى. وانما النظرية يمكن ان تدعم بشكل اقل او اكبر عن طريق البحث وبذلك تكون اكثر او اقل فائدة للعلماء في فهم الظاهرة. كلما استطاع البحث ان يثبت التنبؤ المشتق من النظرية, كلما اصبح علماء النفس اكثر ايمانا بان النظرية اكثر دقة في وصف طبيعة الاشياء. ولكن اذا كان البحث التجريبي قد فشل بصورة مستمرة في اثبات التنبؤات, فان احتمالية قبولنا للنظرية سيكون اقل. وفي هذه الحالات, فان العلماء يقومون عادة بانشاء نظرية جديدة او تعديل القديمة لتصبح اكثر ملاءمة لنتائج البحوث.
المتغيرات التجريبية Experimental Variables
ان تقدم البحث الجيد يكون من النظرية الى التنبؤ ثم الى التجريب. ان الوحدات الاساسية لأي تجربة هي المتغيرات التجريبية, والتي تقسم الى نوعين: المتغيرات المستقلة independent variables والمتغيرات التابعة dependent variables. ان المتغيرات المستقلة هي التي تحدد كيف تقسم المجموعة التجريبية , مثلا عندما يتم توزيع المشاركين عشوائيا على مختلف الظروف التجريبية. يمكن ان يكون المتغير المستقل هو كمية الدواء الذي تتناوله كل مجموعة, او مقدار القلق الذي يستحدث في كل مجموعة, او نوع القصة التي تقرئها كل مجموعة.على سبيل المثال, اذا كان مستوى القلق هو المتغير المستقل فمن المحتمل ان الباحث يخبر المجموعة A بانهم سيلقون خطابا امام عدد كبير من النقاد, بينما المجموعة B ستلقي خطاب امام عدد قليل من المشجعين والداعمين لهم, والمجموعة C لا يلقون اي خطاب. ولان المجموعات انشأت عن طريق المعاملة المختلفة قليلا في المتغير المستقل, فان بعض الباحثين يشيرون الى المتغير المستقل على انه متغير التعامل treatment variable.
اما المتغير التابع dependent variable فهو الذي يقاس بواسطة الباحث ويستعمل لمقارنة المجموعات التجريبية. في دراسة جيدة التصميم, فان الاختلافات بين المجموعات في المتغير التابع يمكن ان تسهم في مستوى الفرق بالمتغير المستقل. بالعودة الى مثال القلق, افترض ان فرضية الباحث كانت ان الناس تقلل القلق حول الاحداث القادمة عن طريق الحصول على اكبر كمية ممكنة من المعلومات حول الموقف. يمكن للباحث ان يستخدم مستوى القلق كمتغير مستقل, ويحدث ظروف قلق عالي, ومتوسط ومنخفض . يمكن ان تقارن المجموعات الثلاثة في عدد الاسئلة التي تطرحها كل مجموعة على المختبرحول الحدث القادم.في هذه الحالة, فان عدد الاسئلة هو المتغير التابع. يمكن لنتائج التجربة ان تكون كالتالي:
|
قلق عالي |
قلق متوسط |
قلق منخفض |
معدل عدد الاسئلة
|
5.44 |
3.12 |
1.88 |
فاذا كانت التجربة قد صممت بشكل صحيح, فان المجرب سوف ينسب الفرق في المتغير التابع (عدد الاسئلة) الى فرق المستوى في المتغير المستقل (القلق). ولان المجربين يرغبون في القول ان الفروق في المتغير التابع هو نتيجة اختلاف المعاملة التي تلقتها كل مجموعة, فان بعض الباحثين يشيرون الى المتغير التابع على انه متغير الناتج(الحصيلة) outcome variable.
مع ذلك, فان اغلب باحثي الشخصية هم اكثر عمقا مما ذهب اليه في المثال السابق. فان الباحثين يستخدمون عادة اكثر من متغير مستقل واحد. ففي مثال البحث عن المعلومات, اي مجرب ربما يرغب في تقسيم المشتركين الى مجموعات طبقا لمدى خجلهم. ربما يتنبأ الباحث من ان القلق يؤدي الى البحث عن المعلومات, ولكن فقط عند الاشخاص غير الخجولين. ان الباحثين في مثل هذه الدراسة الافتراضية قد يستخدمون متغيرين مستقلين لتقسيم المشاركين في مجموعات. ربما يختارون المشاركين عشوائيا اما في مجموعة القلق (المشاركين بخطاب) او مجموعة غير القلقة, ويتعرفون على الاشخاص الخجولين وغير الخجولين في كل من هاتين المجموعتين. فاذا بقى المتغير التابع يتمثل بعدد الاسئلة التي تطرح على المجرب, فان النتيجة سوف تتغير كما في الشكل 2.2 . يوضح هذا الشكل ما يدعي بالتداخل interaction. وهو كيف يأثر متغير مستقل واحد في متغير تابع اعتمادا على متغير مستقل اخر. في هذا المثال, سواء كان القلق يؤدي الى زيادة في الاسئلة اعتمادا على ما اذا كان المشاركين ذوي خجل عالي او منخفض.