المحاضرة الثالثة
عوامل قيام الحروب الصليبية
أ- العامل الديني :
مع مطلع القرن الخامس الهجري أخذت تنتشر في الغرب اساطير كان فحواها قرب نهاية العالم وما أكد هذه الأفكار لدى العامة ظهور بعض الظواهر الطبيعية مثل ثوران بركان فيروز في ايط4اليا وانتشار الامراض التي أودت بحياة الكثير من الناس. وقد عملت البابوية على تاكيد هذه الاعتقادات في نفوس العامة الذين أخذهم الرعب الى الاندفاع والتقرب الى الله بما لديهم من أموال الى الكنيسة وهذا ما أدى بطبيعة الحال الى زيادة أموال الكنيسة بشكل ملحوظ هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ازدياد مكانتها في قلوب الناس اذ انقضى ذلك اليوم الموعود بدون كارثة فقالوا (ان ذلك بفضل ادعية الرهبان وتضرعاتهم للخالق).
وقد استطاعت الكنيسة كذلك استغلال هذا الموقف لصالحها اذ قامت بتحويل هذا الجو النفسي والفكري الى غاية خاصة فان (من يموت في سبيل الكنيسة سوف ينال ثوابا من السماء) ، ومن هنا أخذت توجه الناس الى مسألة تكفير الذنوب التي تتم عن طريق الذهاب الى الاماكن المقدسة.
ومن المعلوم أن سيل الحجاج الاوربيين الى القدس لم ينقطع منذ الازمنة القديمة الى يومنا هذا ولكن هذه المرة تختلف عن غيرها وهو ما اصطلح عليه بالحروب المقدسة ، اذ اخذت الكنيسة تكشف عن سياستها الخارجية في توجيه حرب صليبية ضد المسلمين . اذ قامت بترويج حملة دعائية واسعة كان فحواها تخليص القبر المقدس من أيدي المسلمين ، على اعتبار أن الحجاج المسيحيين كانوا يواجهون المتاعب والاهوال من قبل الحكام المسلمين ، وعادوا (الحجاج الذين نجحوا في التغلب على كل هذه المتاعب الى الغرب وقد استبد بهم التعب وازداد عوزهم وفقرهم ، وادخروا قصة مروعة ليرووها في بلادهم) وهذا ما حاول تأكيده المؤرخون الاوربيون . فمن الواضح لدينا ان هذا الادعاء غير صائب ولا يمكن الاتفات اليه بدليل أن المسيحيين قد عاشوا في كنف الدولة العربية الاسلامية عيشة عز واحترام طبقا لتعاليم القرآن الكريم اذ قال (( فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)) . والشواهد التاريخية التي تدل على حسن المعاملة هذه كثيرة منها تحرير القدس الشريف على يد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكيفية تعامله معهم وتحريره على يد صلاح الدين الايوبي سنة 583هجرية وما حظي به المسيحيون من حسن المعاملة.
نحن نسوق هذه الادلة مقارنة مع مافعله الصليبيون عند غزو بيت المقدس سنة 492 هجرية ، وما ارتكبوه من نهب وقتل فلم يسلم من سيوفهم حتى ابناء جنسهم ، وهذا ما سنبينه لاحقا .
وعلى أي حال فان الكنيسة استخدمت كل وسائل الاغراء مثل اعفاء المشاركين في الحملة المسلحة الى الشرق من جميع الضرائب والتبعات لمدنه الحديثة وكذلك حماية اقطاعاتهم مع موافقتها على منحهم الاراضي التي يستولون عليها في المشرق.
وعلى هذا الاساس وجد الصليبيون في هذه الامتيازات البغية المطلوبة والمنقذ الوحيد من حياة الفقر والبؤس التي كانوا يعانون منها ، أما من الناحية الدينية فان البابا أصدر قانونا وعد المشاركين في هذه الحروب بغفران الذنوب ، الذي تبلور بشكله النهائي ببذل صكوك الغفران .
ب- العامل الاجتماعي والسياسي
من المعروف لدينا أن الظروف الاجتماعية لها دور كبير في تغيير مسار تاريخ العديد من الشعوب ، اذ تكون مهيئة لاعتناق فكرة او تلبية دعوة . وهذا ما نلمسه فعلا في المجتمع الاوربي لاسيما في العصور الوسطى ، فقد كان هذا المجتمع مؤلفا من ثلاث طبقات رئيسة هي : طبقة رجال الدين – من الكنيسيين والديريين- ، وطبقة النبلاء -من المحاربين والفرسان- ، وطبقة الفلاحين – من الاقتان ورقيق الارض . اذ لم تكن هذه الطبقات متساوية في حقوقها وامتيازاتها ولا في الواجبات المفروضة عليها ، بل كان هناك تفاوت كبير فيما بينها بحيث كانت الطبقة الثالثة أكثر معاناة من غيرها ، وذلك لما يقع على عاتقها من العمل الشاق ، بغية سد حاجات الطبقتين الاوليتين .
فعند تسليط الضوء على طبيعة حياة هذه الطبقة الكادحة يفسر لنا بشكل كبير سبب دخول هذه للطبقة وباعداد كبيرة في الحروب الصليبية. فقد كانت حياتها شبه معدومة نتيجة للقلق والخوف والفقر والممارسات اللاانسانية من قبل الاقطاعيين ، مما أدى الى انتشار ظاهرة هروب الفلاحين من مزارعهم ولاسيما في القرن الحادي عشر ، أما مساكنهم فلا تتعدى جذوع النخل واغصان الاشجار متقين بها حرارة الشمس وبرد الشتار ، مستعينين ببعض الأواني الفخارية وصندوق صغير تلبية لسد حاجاتهم ، ناهيك عن الجهل والتخلف الذي كان منتشرا وبشكل كبير بين أفراد هذه الطبقة هذا اذا ما علمنا بأن الاقنان والعبيد كانوا يشكلون الغالبية العظمى من اصحابها ، الذين ارتبطوا بالارض ارتباطا وثيقا بحيث انهم يباعون ويشترون معها استنادا الى قانون الارض الذي كان سائدا في العصور الوسطى فكان هؤلاء الاقنان مسلوبي الحرية الشخصية ، حتى أن جميع ممتلكاتهم كانت ملكا لسيدهم الاقطاعي بالمقارنة مع مايؤدونه من أعمال شاقة ، من حفر الخنادق وبناء الحصون وانشاء الطرقات والجسور وصيانة السدود والقنوات ورعاية الاغنام ، وجز الاصواف وزراعة ارض الاقطاعي الخاصة به ، ليس هذا فحسب بل (حتى نساء الفلاحين كن يشتغلن وكن اقنانا فقد كانت النساء المستعبدات مجبرات على حياكة قطع من القماش أو عمل رداء) . أضف الى ذلك ما تقدمه هذه الطبقة من ضرائب مثل ضريبة الرأس المفروضة على القن سنويا تعبيرا عن عبوديته ، فضلا عن الضريبة المفروضة على ما تخرجه الارض من زرع وعلى ما في حوزتهم من المواشي المعروفة بضريبة العشر التي كانت شائعة في أغلب البلدان المسيحية ، ونتيجة لهذه الظروف العصيبة التي مرت بها هذه الطبقة فقد أخذوا يرحبون بفكرة تعدهم بالخلاص من هذا الواقع الأليم أو تحسينه ، ومن جهة أخرى سيطر عليهم شعور مفاده أن كل ما يلاقونه من عذاب انما هو بسبب المعاصي والذنوب التي ارتكبوها فلا (يمكن التخلص من العذاب الدائم الا بطلب الرحمة من الرب عن طريق اجتراء مآثر بطولية بالمعنى الديني ، للتكفير عن الذنوب لأجل غفران الخطايا من نوع الاستشهاد باسم الايمان) ، وهنا يمكننا القول بأن هذا الشعور هو من ترويج الكنيسة وحملتها الدعائية من أجل حمل الناس على مساندتها فيما تصبو اليه من حرب صليبية ضد الاسلام ، ودليل ذلك اشتراك الاعداد الغفيرة من افراد هذه الطبقة المعدومة ، اضف الى ذلك كله ما وصفته الكنيسة من خيرات تلك البلاد المقدسة ، فقد صوروها بأنها البلاد التي تنضح لبناً وعسلا وعلى هذا الاساس نستطيع أن نقرر أن سبب دخول هذه الطبقة وبأعداد كبيرة في الحروب الصليبية انما كان نتيجة لما كانوا يلاقونه من ضغوط اجتماعية واقتصادية فلو تيسر لهم العيش بحرية في بلادهم لما غامروا بأرواحهم الى مصير مجهول.
أما طبقة النبلاء – فلا يمكن اغفال دوافعها ، فانها لم تكن اقل طمعا من غيرها. وذلك سبب ما تمخض عن النظام الاقطاعي من قوانين ارثية ، تفضي بأن يرث الابن الاكبر الاقطاع عن ابيه ، في حين يبقى بقية الابناء بدون ارض ، وهذا بطبيعته يؤدي بهم الى ايجاد سبل كفيلة من بينها قيامهم بعمليات السلب والنهب والحروب مع ابناء جنسهم لذلك ارتأت الكنيسة خير وسيلة للتخلص من هذه الحروب بايجاد حروب يوجه نطاقها خارج اوربا ، اذ يتضح ذلك جليا من خلال الخطاب الذي ألقاه البابا في مجمع كلرمونت قائلا : ( من الصعب عليكم أن تعيلوا السكان في هذه البلاد وهذا ما يدفعكم لشن الحروب الكثيرة على بعضكم ) وقال ايضا ان (هذه الارض التي تعيشون عليها محاطة بالبحر من كل جانب تحوطها سلاسل الجبال وتضيق باعدادكم الكبيرة ، وهي لا تفيض بالثروات الكبيرة ، انما تكاد تعجز عن توفير الطعام لمن يقوم بزراعتها ، وهذا هو السبب في انكم تشنون الحروب ضد بعضكم البعض وتقتلون بعضكم بعضا) ، أما عن ملوك اوربا فان دخولهم في الحرب كان اضطراراً وذلك بسبب ما لاقوه من ضغوط من جانب امراء الاقطاع والكنيسة ، فمن جانب امراء الاقطاع فان هذا النظام كان هو السائد في اوربا كما هو معروف ، بحيث أن ملوك اوربا كانوا معتمدين في قوتهم وبشكل كبير على هذا النظام ، فكان افراد هذا النظام في الغالب يقفون أمام رغبات الملوك ، الامر الذي ادى الى حدوث صراع سياسي بين الملوك ورجال الاقطاع.
أما من جانب الكنيسة – فان هذا يتضح جليا من خلال المراسلات التي كانت تقوم بها الكنيسة الى ملوك اوربا لحثهم في الخروج على رأس جيوشهم الى الشرق لمحاربة المسلمين وقد استخدمت الكنيسـة سطوتها ونفوذهـــا السياسي في اجبار الملوك على الاشتراك في هذه الحروب، يتضح ذلك من خلال اصدار قرار الحرمان بحق كل من لم يخرج ، وخير مثال على ذلك الامبراطور فردريك ، ومن خلال ما تقدم يمكننا القول أن الحروب الصليبية كانت العلاج الوحيد لجميع الطبقات في المجتمع الاوربي ، ذلك لما تعانيه من اضطرابات سواء كان ذلك على الصعيد السياسي ام الاجتماعي ام الاقتصادي ، فكل طبقة وجدت ضالتها في تلك الحروب .
ج- العامل الاقتصادي :
يعد العامل الاقتصادي من بين أهم العوامل التي دفعت الاروبيين الى القيام بهذه الحروب ضد المسلمين استناداً الى ما اتصفت به حياة المجتمع الاروبي في العصور الوسطى من ضنك العيش والبؤس والفقر ، اذ يذكر رنسيمان واصفا حالهم (فالحياة هنا اصبحت تعسه ، كثيرة الشرور ، بعد أن افنى الناس أنفسهم في تدمير أجسادهم وارواحهم واستبد بهم هنا الفقر والبؤس. . ) ، وكان أكثر ما تكون هذه الحالة في فرنسا التي كانت تعاني من ازمة اقتصادية حادة اجتاحت البلاد بأسرها ، من غلاء في الاسعار وشحة في الخبر وعلى هذا الاساس نستطيع القول بأن سبب دخول الفرنسيين وبأعداد كبيرة في الحملة الاولى انما كانت بسب ما تعانيه البلاد من تخلف اقتصادي كبير. أضف الى ذلك ما كانت تعانيه اوربا من صراعات داخلية نتيجة لتردي الاوضاع الاقتصادية التي دفعت كثيرين الى القيام بأعمال اللصوصية وقطع الطريق ، فضلا عن الصراعات التي كانت قائمة بين كبار الاقطاعيين من أجل توسيع اقطاعاتهم وما يترتب على هذه الاعمال من التبعات الاقتصادية مثل تدمير الحقول وافساد المحاصيل الامر الذي يؤدي الى ارتفاع الاسعار وشحة الاقوات . ومن جهة أخرى فان الكنيسة اثبتت فشلها في ايقاف هذه الحروب المدمرة ، لذلك رأت الكنيسة أن الحل الوحيد في التخلص من هذه الحروب ايجاد حرب يكون نطاقها خارج اوربا . وقد استخدمت الكنيسة لانجاز هذا المشروع الترغيب والترهيب ، اذ وعدت الناس بالنعيم والسعادة وكثرة ثروات الشرق ، كما أنهم سيحظون بالرعاية الالهية وغفران الذنوب والخطايا، ومن جهة أخرى اصدرت قرار الحرمان لكل من يعارض هذا المشروع او من لم يشارك به من الملوك والامراء . كما يجب علينا عدم اغفال دور الطامعين من المغامرين والامراء ، الذين حرصوا على اقامة اقطاعاتهم في الشرق من اولئك الذين حرموا من ارث الاباء طبقا لما يقتضيه النظام الاقطاعي في العصور الوسطى ، فلو سلطنا الضوء على خط سير الحملة الصليبية لاتضح ذلك جليا من خلال ما اقترفوه من عمليات السلب والنهب المعارضة لكل القيم الدينية والاخلاقية . اضف الى ذلك ما حصل من منازعات بين القادة الصليبيين انفسهم بعد وصولهم الى بلاد الشام حول تكوين المستعمرات واستغلال مواردها للحصول على أكبر قدر ممكن من ثرواتها . ومما يؤكد الدافع الاقتصادي ايضا ماقامت به المدن التجارية في اوربا امثال جنوه والبندقية وبيزا من دور كبير في مساعدة الصليبيين ، ذلك بتقديم كل مستلزمات النقل والتموين للصليبيين وذلك بغية الحصول على منتجات الشرق باسعار زهيدة ، وايجاد طرق جديدة تجعلها اكثر اتصالا بالشرق .
ومن خلال ما تقدم يمكننا القول بأن هذه المدن لم تكن مخلصة في مساعيها بل كانت مصلحتها التجارية فوق أي امر آخر ، حتى لو كان على حساب الصليب نفسه . بدليل ما قامت به البندقية في تحويل الحملة الصليبية التي كان من المقرر لها أن تتجه نحو مصر ، اذ لم تتورع ان وجهتها نحو القسطنطينية البلد المسيحي الآمن . ونحن نرى أن هذا العامل هو العامل المتغلب على بقية العوامل الاخرى لأهميته ولانطباقه على الأقوال والافعال التي رافقت الغزو الاوربي للمشرق الاسلامي.
1. سبط بن الجوزي : مرآة الزمان.
2 . المقريزي : اتعاظ الحنفاء .
3 . ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة .
4 . ابن العديم : زبدة الحلب من تاريخ حلب .
5. ابن القلانسي : ذيل تاريخ دمشق .
6. ستيفن رنسيمان ، تاريخ الحروب الصليبية ، نقله الى العربية السيد الباز العريني .
7. ارنست باركر، الحروب الصليبية ، نقله الى العربية السيد الباز العريني .