المحاضرة الخامسة
الوصاية البريطانية وتفاقم أزمة الحكم الصيني
أوضحت الأحداث التي أعقبت هزيمة الصين في حرب الأفيون الأولى وقبولها بالمعاهدات اللامتكافئة وما أثارته من ردود فعل داخلية تمثلت في موجة من الانتفاضات الشعبية التي عبرت عن استياء السكان من التدخل الأجنبي ومن استبداد موظفي الدولة. وهي انتفاضات ساهمت بدورها في تعميق الأزمة العامة.
أوضحت هذه الأحداث أن الإمبراطورية الصينية قد دخلت مرحلة تأزم شامل ومتعاظم جعلت الصين تحت رحمة الوصاية الفعلية للقوى الأوربية وسيطرتها السياسية والاقتصادية، وبدا معها واضحا أن نفوذ المانشو كان يسير نحو الزوال.
فالدول الأوربية لم تقتنع بما حصلت عليه من امتيازات وأخذت تمارس كل أشكال الضغط مطالبة بتعديل اتفاقيات للحصول على مزيد من التسهيلات والتنازلات، وكانت أهم مطالبها تتلخص في الأهداف التالية: حرية الدخول إلى جميع أجزاء الإمبراطورية، حرية الملاحة في نهر اليانجستي، إباحة قانونية لتجارتي الأفيون والخنازير، (وهو اسم كانوا يطلقونه على العمال الصينيين)، إقامة علاقات ديبلوماسية منتظمة مع بيكين، والسماح للمثلين الديبلوماسيين بالإقامة في العاصمة، وقد كان واضحا أن الصينيين لابد و أن يقاوموا تلك الأهداف ولا ينصاعوا لهذه المطالب المشتطة إلا بعد أن تصاب الصين بهزيمة ساحقة، وفعلا لم تجد فرنسا وأنجلترا في خلق معاذير ينتحلونها للحرب وفرض تنازلات جديدة، حيث استغلت بريطانيا حدث استيلاء السلطات الصينية على سفينة قرصنة صينية ترفع العلم البريطاني، ووجدت السلطات البريطانية في هذا العمل الذريعة التي كانت تبحث عنها فطلب المندوب السامي البريطاني في هونج كونج الإفراج عن بحارة السفينة وتقديم اعتذار عن الحادث لأن السفينة وربانها تحت الحماية البريطانية، ولما رفضت السلطات الصينية هذا الطلب غير المعقول، أعلنت بريطانيا الحرب على الصين (حربي الأفيون الثانية والثالثة). وسرعان ما انضمت فرنسا إلى الحرب بدعوى أن قسيسا فرنسيا قد قتل. وانتهت الحرب بهزيمة الصين وإرغام حكومة المانشو على توقيع معاهدة تيان – تسين المهينة (يونيو1858) ومن بعدها معاهدة بكـين (25 أكتوبر 1860).
وقد حققت هذه المعاهدة للدول الأوربية ما كانت تصبو إليه وتحارب من اجله مدة السنوات العشرين التي سبقتها، فبمقتضاها اتسعت حرية التحرك لدى التجار الأوربيين عبر مجموع التراب الصيني، ورفع المنع عن تجارة الأفيون وحق الأجانب في استخدام العمال الصينيين في مناطق بعيدة، وفتح إحدى عشر ميناء جديدا للتجارة الأوربية، منح الحرية للمبشرين المسيحيين في نشر معتقداتهم في الداخل، وبالإضافة إلى كل ذلك فرضت المعاهدة رقابة مالية على الصين حيث أصبح أحد المسؤولين البريطانيين مفتشا عاما للجمارك البحرية، ودفع غرامة حربية، وفضلا عن ذلك قضت المعاهدة بأن يكون من حق الدول الأجنبية إرسال بعثات سياسية دائمة.
لقد شكلت اتفاقية بكين نقطة تحول كبرى في تاريخ العلاقات الصينية الأجنبية وأنهت صفحة العداء بين حكومة المانشو والقوى الأجنبية، ذلك أن هذه القوى أصبحت تسعى إلى الحفاظ على استمرارية النظام الإمبراطوري، وحصل تحالف بين الطرفين في مواجهة أي تحرك أو تمرد شعبي يستهدف الإطاحة بالأسرة الحاكمة، وأصبحت الصين تحت وصاية الأجانب، بل كل تاريخ الصين بعد حرب الأفيون الثانية إلى نهاية القرن التاسع عشرة عبارة عن محاولات الدول الأجنبية اقتسام مناطق النفوذ بها. ويمكن إنجاز أهم هذه الوقائع فيما يلي:
الحرب الصينية – اليابانية (1894 – 1895).
مع نهاية القرن 19 غدت اليابان قوة صناعية تتطلع بدورها إلى مد تجارتها، ومنافسة القوى الأوربية في اقتسام النفوذ بالمنطقة، فبدأت تضغط على الصين للتخلي عن حقوقها التاريخية في كوريا، وأقحمت الصين في حرب قصيرة انتهت بهزيمتها وتوقيعها على معاهدة (شيمونوسيكي)، اعترفت فيها بحق اليابان في إقامة المصانع على الأراضي الصينية، والتخلي عن نفوذها على كوريا. والتنازل عن جزيرة تايوان (فرمورة) وعلى ميناء بور – ارثور، وشبه جزيرة لياو-تونغ، وأداء غرامة حربية اضطرت إلى اقتراضها من الدول الأوربية.
تجزئة الصين Breakup (1896 –1898)
أعطى الانتصار الياباني إشارة الانطلاق للدول الأوربية وقيامها بعملية تجزئة شبه شاملة للصين مست كل المناطق الاستراتيجية والعسكرية (واتخذ هذا الإجراء شكل عقود تأجيرية لمدة 99 سنة) حيث حصلت كل دولة على منطقة نفوذ يسمح لها فيها باستغلال باطن الأرض وإنشاء السكك الحديدية واستقدام جيوشها “للحفاظ على الأمن”. وهكذا كانت منشوريا من نصيب روسيا، وشبه جزيرة شانتونج من نصيب ألمانيا، وخليج كوانجسو شوان في جنوب الصين من نصيب فرنسا، بينما استولت بريطانيا على منطقة ويهاي وي، وكل المنطقة الممتدة على نهر اليانجسيتي، وبذلك أصبحت الصين عبارة عن مستعمرة دولية.
لقد أدت السياسة الاستعمارية وعملية الابتزاز المنظمة لموارد الإمبراطورية إلى أزمة مالية خانقة تمثلت في إفلاس الخزينة الصينية، واضطرار الصين إلى الاستدانة من مستغليها، وتنازلها كضمانة لتسديد القروض عن حق تحصيل رسوم الجمارك وبعض رسوم النقل الداخلي مما يعني سيطرة القوى الأوربية على مقومات الاقتصاد الصيني وعجز النظام المانشوري عن إصلاح الأوضاع والحفاظ على سيادة البلاد. وكانت النتيجة المباشرة هي تزايد سخط وتذمر الفئات الشعبية وتحوله من انتفاضات عفوية إلى انتفاضة جماعية منظمة ممثلة في حركة البوكسير التي انطلقت من تآلف كل الجمعيات السرية المناهضة لسياسة الحكومة، ولكل أشكال الوجود الأوربي، والتي أصبحت تحمل اسم “قبضة اليد للسلام والعدالة”
حركة البوكسير (1897-1900)
اندلعت حركة البوكسير في إقليم الشانتونج تحت قيادة جمعية “الفضيلة والنظام” إحدى الجمعيات السرية الكثيرة، وهي جمعية عرفت بممارستها لرياضة الملاكمة المقدسة التي كانت تجمع في نفس الآن بين تمارين جسدية وتدريب نفسي حيث كان المنضوون تحت لوائها يمارسون مجموعة من الطقوس الدينية والسحرية مرتدين زيا خاصا يميزهم عن غيرهم، وقد كان أغلب أعضاء الجمعية في بداية انطلاقتها هم فلاحي الشمال المتضررين من مجاعتي 1896-1897 وفيضانات النهر الأصفر (1896)، فضلا عن العناصر التي همشها الوجود الأوربي (صغار التجار، الحرفيون، البحارة القدامى، الجنود المطرودين)، ومن صفوف هؤلاء تشكلت قيادة الحركة الكونفوسين كما انضم إلى الجمعية عدد كبير من المثقفين الكنفوسين نظرا لأن تزايد النفوذ الفكري والديني للمبشرين المسيحيين أصبح يهدد وجودهم ويشكل خطرا عليهم، كما كان من أعضاء الجمعية نساء كثيرات شكلن وحدات داخل الجمعية كوحدة “المصابيح البيضاء” و”المصابيح الحمراء” ولاشك أن حضور المرأة بهذه الكثافة كان يعكس مدى عمق الأزمة الاجتماعية التي أدت إلى تفكيك الأسرة التقليدية في المدن وحتى في البوادي.
لقد انطلقت حركة البوكسير كحركة فلاحية مستهدفة تصفية “الماندران” وكبار ملاك الأراضي، رافضة لكل أنواع الضرائب، غير أن عداءها كان موجها أساسا ضد الأجانب ولا سيما المبشرين والصينيين المتمسحين، وتتضح معاداتها للتحديث وكراهيتها للأجانب من خلال الشعارات التي كانت ترفعها مثلا “إن المسيحيين والبرابرة أقلقوا راحة آلهتنا بحياتهم الفاضحة و هذا هو الأصل في المآسي التي تنصب على رؤوسنا، هذا الجفاف المهول الذي عم هذه السنة أغلب المناطق سيستمر مادام بين جدراننا شخص واحد من هذه الشياطين”
بمثل هذه القناعات انعدلعت حركة البوكسير ودخلت في صراع ضد كل أشكال الوجود الأوربي حيث قامت بقطع خطوط التلغراف والسكك الحديدية المؤدية إلى بكين وتخريب المراكز التجارية والمؤسسات الصناعية ونهب مباني المبشرين وتعرض الأجانب في إقليم شانتونغ منطلقها إلى تصفية جسدية واسعة، ومع توسع قاعدة صفوف الحركة أصبح هدفها هو احتلال العاصمة بكين.
أما موقف الحكومة، فقد عارضت تحت وطأة ضغط الدول الأجنبية –أعمال التمرد التي كان يقوم بها الملاكمون حيث شن حاكم إقليم شانتونج حملة قمع واسعة وتم إعدام مجموعة من كبار مسيري الجمعية، كما منع الانخراط في أي جمعية من الجمعيات السرية، غير أن هذه الإجراءات لم تحل دون استمرارية الحركة بل على العكس من ذلك ازدادت قوة وتوسع نفوذها مما جعل أسرة المانشو تغير موقفها تجاه البوكسير.
لقد ارتأت الإمبراطورية “تزوهسي” تجنبا للاصطدام مع قوة الملاكمين واستغلالها لحسابها في الضغط على الأجانب، إذ لم تبد أي مقاومة أثناء زحفها إلى بكين ومهاجمتهم لممتلكات ومباني الأجانب، بل أكثر من ذلك اعترفت علانية بمشروعية حركة البوكسير، كما انضمت بعض القوات الرسمية إلى قوات الملاكمين أثناء مهاجمة المفوضيات الأجنبية في بكين وضواحيها طيلة خمسة أيام لقي خلالها الأجانب خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، عندئذ شعر ممثلو الدول الأجنبية بضرورة اتخاذ إجراءات حربية غير أن كل دولة وقتذاك لم تكن لتسمح للأخرى بمبادرة التدخل منفردة حتى لا توسع نفوذها على حساب الدول الأخرى، غير أن حدث اغتيال الوزير الألماني “كيتلر” ببكين دفع هذه الدولة إلى شن حملة من الدعاية استهدفت تأجيج الرأي العام الأوربي وحث الحكومات على التدخل الفوري لسحق حركة الملاكمين وما هي إلا أيام حتى اقتحمت القوات الأجنبية العاصمة بكين، وعلى امتداد أسبوعين تعرض الصينيون لأبشع الجرائم حيث كان يتم يوميا إعدام آلاف المواطنين كما تام تدمير المنازل والأحياء ونهب نفائس القصر الإمبراطوري، وأرغمت الصين مرة أخرى على قبول صلح مهين، حيث فرضت القوى الأوربية دفع تعويضات باهضة بلغت مائة مليون جنيه، وحق إبقاء حاميات عسكرية ببكين لضمان حماية وأمن الرعايا الأجانب وحراسة السفارات الأجنبية، كما تقرر حضر استيراد الأسلحة لمدة سنتين، وهدم تحصينات “تاكو” مما يعني وضع بكين تحت الاحتلال الأجنبي الفعلي.